كان يومًا واحدًا فقط يفصلني عن الهاوية.
ليالٍ طويلة قضيتها أحدّث نفسي بصمتٍ ثقيل، قراراتي لم تكن قرارات، بل استسلامًا مقنّعًا لموجةٍ لا أملك النجاة منها. كنت قد حزمت أمري، جمعت شتاتي، وحددت اللحظة التي سأنهي فيها كل شيء. لم يكن قرارًا متهورًا، بل مخاضًا مؤلمًا سبقته شهور من الألم، والكتمان، والتآكل من الداخل.
وفي خضمّ ذلك الانهيار الصامت، حدث ما يشبه المعجزة الصغيرة... همسة من أحدهم، اقتراح عابر:
"استشيري أحدًا قبل أن تُقدمي على ما عزمتِ عليه."
كأن الله ألقى إليّ بطوق نجاة على هيئة صوتٍ خافت.
ترددت، ثم اتصلت.
تحدثت المستشارة بهدوء، وطلبت أن أزورها.
"زيارة واحدة فقط"، قلت في نفسي.
فما الذي سأخسره إن خطوتُ خطوتي الأخيرة بعد أن أراها؟
في صباح الموعد، استيقظت بروح مثقلة، كأنها شجرة في الخريف تساقط عنها الأمل ورحل. كان قلبي يحدّثني:
"لماذا تذهبين؟ القرار قد اتُّخذ، ولا جدوى من الكلام."
لكن كان هناك صوت آخر، خافت وعميق، يهمس:
"ربما تبحثين عن ذريعة أخيرة للتراجع، لكنك تخجلين من الرجوع."
وصلتُ إليها متعبة، وجلسنا. نظرت في عينيها وقلت بصراحة:
"أنا متخذة قراري، ولا أظن أنك تملكين ما يمكنه تغييره. لا أعلم حتى لماذا جئت."
ابتسمت، ولم ترد بكلمات عظيمة. بل بدأت تسأل، وأنا أجيب... ثم أكمل، ثم أفرغ كل ما كنت أحمله، وكأن أربعة جدران صغيرة أصبحت ملاذًا للبوح، للضعف، للإنسانية.
أربع ساعات.
أربع ساعات من الحديث، والبكاء، والمقاومة الداخلية.
أربع ساعات من محاولة التمسك بقراري، ومن يدٍ تمتد بهدوء لتنزعني منه بلطف.
ثم قالت لي بصوت صادق:
"لا أطلب منكِ أن تُلغِي القرار، فقط أجّليه... امنحي نفسك مهلة، ستكتشفين فيها أن الحياة لم تُغلق أبوابها بعد."
وفي خضم الحديث، مررنا على حلمي المهمل... على شيءٍ ما كنت قد دفنته منذ زمن: الكتابة.
أخبرتها أنني كنت أحب أن أكتب، وأحلم أن يُكتب اسمي على غلاف كتاب.
فابتسمت بدهشة حنونة وقالت:
"أنا كاتبة، لدي ستة عشر كتابًا، وسأساعدك في كتابة أول كتيّب، حتى لو كان صغيرًا. المهم أن يولد حلمك من جديد."
ثم ناولتني كتابًا من تأليفها، عليه اسمها وتوقيعها، وكلمات إهداء كتبتها خصيصًا لي.
عدتُ إلى منزلي تلك الظهيرة وأنا لا أشبه نفسي، كأن أحدهم أزاح الغيم عن قلبي.
جلست أقرأ ذلك الكتاب حتى نهايته. كان يتحدث عن الحياة، والصداقة، وتخطيط المستقبل، وطرق كسب القلوب... وكل نهاية فصل تحمل تمرينًا صغيرًا، كأنه يمسك بيدي لأبدأ من جديد.
في ذلك اليوم، أدركت الرسالة التي خبأها الله بين السطور:
أنني كنت على وشك التمرد على الحياة، فأخسرها إلى الأبد، لكن الله ساقني إلى من يذكرني بشيءٍ أحببته... لأحب الحياة من جديد.
أن الله لا يترك أحدًا ينكسر وحده.
وأن خفايا الأقدار ليست إلا نوافذ خفية يفتحها الله حين تُغلَق الأبواب في وجوهنا.
نوافذ صغيرة... تنقذنا من أنفسنا، وتعيد تشكيلنا من الداخل بلطفٍ بالغ.
الرسالة الخفية التي استنتجتها:
"ما دامت فيك ذرة رغبة في النجاة، فإن الله سيسوق إليك من يدلك على الطريق.
وما دمتَ تحب شيئًا، فسيجعل الله منه حبل نجاة، يعيدك إلى الحياة عبره."
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat