صفحة الكاتب : طارق محمد حسن

أنماط الصورة الأدبية في نهج البلاغة ح1
طارق محمد حسن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


  تتخذ الصورة الأدبية في خطب الإمام علي (ع)أنماطاً متعددة، تبعاً للنوع الخطابي، ومقتضى الحال المستلزم للتأثير بالرأي والإقناع بالفكرة، ويقف النقّاد المحدثون على شأنٍ مهم من شؤون نجاح الصورة في العمل الأدبي عموماً، والذي يتطلبه الأُسلوب الخطابي على وجه الخصوص لضرورة غرضه الإقناعي، وهذا الشأن يتعلق بتوقف نجاح الصورة على عنصرين هما:  الألفة والطرافة، وهما سمتان ضروريتان وأصيلتان في البناء الخطابي، فالألفة تعني حركة الأداء الفني والتعبيري بجميع أدواته ووسائله، ضمن الأفق والتصوّر الحقيقي والممكن، وضمن الظواهر التي خبرتها الحياة اليومية، لا الإغراق والإحالة بذكر ظواهر وآفاق غير مأنوسة ولا محسوسة، بل جارية ضمن الأفق العام للتفكير والإدراك، وهذا يأتي ضمن وحدة السياق الفكري والتفكيري كقضية (رؤوس الشياطين) التي سأل أحد الكتاب أبا عبيدة عنها في مجلس الفضل بن الربيع، حيث قال السائل: ((قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله، وهذا لم يُعرف، فقال أبو عبيدة: إنمّا كلّم الله تعالى العرب على قدْرِ كلامِهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتُلني والمشرفيُّ مضاجعي   ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ
وهم لم يروا الغول قطُّ، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم، أُوعِدوا به)).
   وهذا أساسٌ مهم من أسس إنبثاق الصورة، إذ أنها ينبغي أن تكون ضمن إطار التفكير العام، وإن كان غير مألوفٍ أو متحققٍ في الخارج، ((فالمعاني البلاغية هي المعاني التصويرية التي تدرك بالحدس والنظر العقلي (أي الذهني)، ويبرر استعمال الصورة كون المعرفة تتم عن طريق الاشكال، فيقاس الذهني على الحسي)) ولا يقصد بالألفة التي هي عنصر نجاح الصورة، تلك الألفة تخرج القول عن المألوف لارتفاع اللغة وإثارتها للإعجاب والمتعة، بل الألفة تتمثّل في انسجام أطراف الصورة وألفتها ووضوحها ومقبوليَّتها بل منطقيتها التي عِيب أبو تمام في بعض صوره الشعرية على خروجه عنها، فهذا الجزء من الصورة ينبغي أن تكتنفَه الألفة وتحيط به، بل ينبثق عنها ويولد منها، وإنما تقع الغرابة التي تتطلبها الصورة في مرحلة ثانية، تتمثل في إحداث الربط بين تلك الأطراف المتسمة بالألفة، وهذا الربط هو مظهر تجلي الإثارة والشد الإنفعالي، ولا يتصور أحدٌ أن إحداث هذا الربط أمرٌ سهلٌ ميسورٌ تناله كلُّ يد، ويحدثه كلُّ فكر، بل يحتاج إلى سعةٍ في الفطنة والذكاء وإحاطةٍ وإجالةٍ وعلمٍ - فيما يتعلق بالخطيب والخطابة - بـمقتضى الحال، وحالة السامع ومرتبته الذهنية والشعورية، وهذا يرتبط بمقام الخطيب ومنزلته في نفوس سامعيه. ومن هذا القبيل قول الإمام علي (ع)في إحدى خطبه مخاطباً الجيش: ((قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ أَلا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ). فألفاظ عبارة الإمام علي(ع)محددة منحصرة في ثلاثة أطراف (الموت والحياة والقهر)، وغرض المتكلم ومغزاه استنهاض الهمم ورفض الذلّ، فببراعة الإمام (ع)استطاع أن يخرج تلك الصورة بذلك المخرج، من خلال تشكيل تلك الألفاظ ورسم صورة جديدة للموت والحياة، في غاية الطرافة، ورفع الصورة السلبية للموت في الذهن.
  ويعتبر التفصيل بذكر أدقّ الجزئيات سمةً بارزةً في خطب الإمام (عليه السلام)، لاسيِّما فيما يتعلق بالأمور غير المدركة بالحواس، والأمور الأُخروية، وإنّ مرجع هذه الدّقة بالإضافة إلى علمه (ع)الجمّ، راجعٌ إلى عمق تدبّره للقرآن الكريم، وتجميعه للصور المبثوثة عن تفاصيل الحياة الأُخرى، وما يلقاه الإنسان ابتداءً من معاينته ومعالجته لسكرات الموت، لاستكمال عروجه إلى خالقه عزَّ وجلَّ.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طارق محمد حسن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/31



كتابة تعليق لموضوع : أنماط الصورة الأدبية في نهج البلاغة ح1
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net