المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة ( ج 4)
ايليا امامي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ايليا امامي

ضلع الوتر: ما معنى المنطقة المحايدة؟
أسسنا في الجزئين السابقين لقاعدة عامة في الخطاب المنبري، تقضي بأن على المنبر أن يكون الجسر الأهم لإسماع الناس كلام ومواقف وأخلاق أهل البيت عليهم السلام، (وكما سيأتي كذلك في ملحق الروايات) :
وقد ذكرنا أن لكل قاعدة استثناء، وفي هذا الجزء نذكر الاستثناء فنقول:
إذا شعر الخطيب أن من واجبه التصريح على المنبر ببعض الجوانب السياسية، أو ذكر بعض الأسماء المعاصرة، فلا بد أن يقع ذلك ضمن ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الأمر المذكور من نوع المبدئيات والثوابت، لا المتغيرات، لكي لا يقع المنبر في حالة وهن وضعف لو تبدل الواقع وتغيرت المواقف التي برر لها أو دافع عنها باستخدام كلام المعصوم عليه السلام.
الثاني: أن يكون الأمر المذكور مما يلم شمل المؤمنين ولا يمزقه، لأن تمزيقهم يفضي إلى وجود ألوان وأشكال من المنابر الفئوية، وستتصادم مع بعضها مستقبلاً، ويصبح موسم عاشوراء موسم المعارك الداخلية.
الثالث: إن يكون الأمر المذكور مما لا يجر بلاء القمع على المنبر دون ضرورة، بأن يجر الخطيب على نفسه الملاحقة والتضييق دون حاجة أو جهاد بالكلمة (وهذه أمور يشخصها الفقيه وليس الخطيب) وبالتالي يحرم المجتمع من عطائه.
ودعنا نوضح هذه الشروط الثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون من المبدئيات لا المتغيرات.
مثاله: عندما يمر الخطيب على قول سيد الشهداء عليه السلام (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين الذلة والسلة، وهيهات منا الذلة)..
فالإسماع: أن يبين الخطيب طغيان يزيد وكيف وضع الإمام عليه السلام أمام طريقين لا ثالث لهما، ويذكر الأسباب التي جعلت الحسين عليه السلام يعتبر طريق البيعة ليزيد طريق ذلة، والدوافع التي جعلته يختار طريق السلة والحرب.
إذا تم ذلك بشكل صحيح، عندها سيعرف كل فرد منا، كيف يتفاعل مع موقف مرجعه إذا أفتى بالجهاد، وكيف يتقبل موقفه إذا أفتى بترك القتال، لأن هذا الفرد المثقف يعرف جيداً ظروف الحسين عليه السلام، وأنه لم يكن شاهراً سيفه طيلة حياته، بل اختار المسالمة والصبر على الظلم والقتل لأصحاب أبيه طيلة عشر سنوات، قبل أن يعلن نهضته المباركة.
لكن ماذا عن الإقناع والإضافات؟، بأن ترى خطيباً حسينياً يمر على هذه الكلمة الخالدة، فلا يعطيها التوضيح الكافي، ثم يستنزف وقته في القول أن (الدعي بن الدعي) هو ترامب، الذي يخير إيران بين الذلة (التخلي عن البرنامج النووي والصاروخي) وبين السلة (الحرب الشاملة) وهيهات من إيران الذلة!
مثل هذا الخطيب بالتأكيد سيحصل على التشجيع الكافي من الجمهور المتحمس في تلك المرحلة، لكن هذا الجمهور الذي لم يتعرف بما فيه الكفاية على كلمة (هيهات منا الذلة) سوف لن يفهم من سيرة الحسين عليه السلام إلا الرفض المطلق، والقتال حتى النفس الاخير.
وبالتالي فهذا الجمهور الذي صورت له ترامب يزيد العصر، وإيران حسين العصر، سيبقى مذهولاً لو انتهى التفاوض بين أمريكا وإيران إلى صلح وزيارات متبادلة، ودخلت شركات الاستثمار الأمريكية إلى إيران!
قبل أيام قرأت للكاتب الإيراني عبد الوهاب فراتي مقالاً ينتقد فيه بعض (الحوزويين الثوريين أكثر من قادة الثورة) ومما جاء فيه أقتبس مقاطع:
(لماذا تعمل بعض التيارات التي تثير الضجيج في الأوساط الحوزوية على تقويض هذا الرصيد الوطني؟ .... لا سيما وأن بعض القنوات الحوزوية (خاصة على منصة إيتا) ..... والتي تعتبر نفسها “اللب الصلب للنظام” و”مفسرة لتصريحات القيادة”، تسعى إلى خلق القلق والاضطراب والانقسام الاجتماعي .... إلى تقديم وقف إطلاق النار على أنه نتيجة للاختراق، ونشر جو من الفرقة والانقسام بين رجال الدين).
ولست أدري ما سبب امتعاض الكاتب، إذا كان هذا الجيل الذي ينتقده، تربى تحت منبر الثورية المطلقة والشعارات الرنانة وتوظيف الشعائر في تمجيد المواجهة المسلحة كخيار وحيد، وهي تربية استمرت لسنوات طويلة، دون أن يتلقى التوعية الكافية حول مواقف الحسين في وقت التقية والهدنة، وأنه عليه السلام كان أكثر الناس تقية في وقته، وقبل نهضته المباركة!
إذاً، يجب أن يركز المنبر الحسيني على الأمور غير القابلة للتبدل مع الوقت، فعندما تحارب قضية مثل (انحراف الجندر) على المنبر فهي مسألة ثابتة وأخلاقية، وخذ راحتك في الحديث عنها، لكن عندما تشيد بالسياسيين الذين وقفوا نفس موقفك وتمدحهم، فقد أصبح كلامك دعاية انتخابية لهم شئت أم أبيت، وسيستخدم لصالحهم عاجلاً أم آجلاً، ولو اختلف نظرك تجاههم.
* هل تعلم كم عدد المنابر التي مدحت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد خلال فترة رئاسته ؟ ثم أصبح بعدها عدواً للثورة والسيد الخامنئي في نظر نفس المنابر؟
ومن قبله تكرر نفس الأمر مع مهدي بازركان أول رئيس إيراني بعد الثورة الإسلامية.
ومن قبله حصل ذلك مع عبد الكريم قاسم أول زعيم للجمهورية العراقية.
وهكذا تجد بعض المنابر المرحلية، تتعامل مع أحداث أكبر من استيعابها، فلا هي تملك الحكمة الكافية لمعالجة الأحداث الجارية بشكل صحيح، ولا هي متمسكة بكلام أهل البيت عليهم وتكرس نفسها لمعارفهم.
الشرط الثاني .. يتبع.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat