المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة. ج2
ايليا امامي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ايليا امامي

الجزء الثاني.
* كلنا نعرف أن الخطيب إذا صعد المنبر ستكون أمامه مهمتان:
مهمة أصلية ومأمور بها عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، وهي الرثاء والإبكاء على مصائب أهل البيت عليهم السلام لأجل بقاء الانشداد العاطفي لهم.
ومهمة أخرى فرضتها الحاجة إلى توعية المجتمع في مثل هكذا تجمعات، وهي المحاضرة، والتي ترتكز بالدرجة الأساس على نصوص القرآن والعترة.
أما المهمة الأولى فلا يوجد اليوم من يجادل فيها، فقد تضاءل -بحمد لله- ذلك الصوت السطحي والمريض الذي يعيب علينا البكاء على قتيل العبرة، ويستتر خلف شعار (الحسين عِبرة لا عَبرة) وأخرس هذا الصوت، بعد أن خاضت العين المفتوحة معارك ثقافية طاحنة لتثبيت حق الدمعة التي يستنكرونها.
وهذه المواجهة قد تتجدد في وقت قادم، لكن المجتمع أصبح أكثر وعياً وحصانة من هذه الناحية، بعد أن لمس بركة الدموع، في الحفاظ على الحالة المعنوية والتماسك الاجتماعي للشيعة.
وأما المهمة الثانية، فهي موضوع هذا الجزء من المقال.
* كنت قد نوهت في الجزء الأول، إلى مثلث قائم الزاوية يساعدنا على فهم الدور التوعوي للمنبر، وموقعه من الأحداث، وهذا المثلث هو:
* الضلع القائم الأول: يجب أن لا ننسى غاية الوجود.
* الضلع القائم الثاني: أولوية الإسماع على الإقناع.
* ضلع الوتر: ما معنى المنطقة المحايدة.
وهنا.. فلنشرح التفاصيل بصورة موجزة وسريعة:
الضلع القائم الأول: يجب أن لا ننسى غاية الوجود.
* توجد في هذه الدنيا غاية لوجودنا، وطريق واحد فقط للوصول إلى هذه الغاية.
وثمة خطران يحدقان بالإنسان المؤمن، إما نسيان الغاية، أو نسيان الطريق الموصل إليها.
إن غاية وجودنا هي الوصول إلى الله تعالى، ولا طريق لهذا الوصول إلا باتباع السراط المستقيم والصعود في سفينة النجاة، أعني المصطفى وآله صلوات الله عليهم.
* كل معاركنا العسكرية والثقافية والسياسية، كل ما نتحمله يومياً من عناء هذه الدنيا وتعقيداتها ومتطلباتها المعيشية وصعوباتها المتواترة، كله ينتهي إلى نقطة واحدة، وهي لقاء الله تعالى يوم القيامة (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)
وغاية كل شيء هي القيامة كما ورد في نهج البلاغة، قال عليه السلام: (وبادروا الموت في غمراته. وامهدوا له قبل حلوله، وأعدوا له قبل نزوله. فإن الغاية القيامة. وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل).
* هذا هو جوهر حياتنا، وعلينا تذكره في كل أعمالنا، ونستحضر في قلوبنا دوماً ما هي القيمة العليا لوجودنا في هذه الحياة مهما كانت مواقعنا.. من العالم النووي أو مهندس الصواريخ في ايران، الذي يضع دمه على كفه، الى الراعي أو عامل (المسطر) البسيط الذي لا يفكر من الدنيا في شيئ، ولا يتحمل مسؤولية شيء، إلا العودة في نهاية اليوم بقوت عائلته.
* وكلما زاد تعقيد هذه الدنيا وكثرة تفاصيلها اليومية، كلما زادت الخشية أن يضل الانسان طريق الوصول إلى غايته، وقد يبدأ الخروج عن (الصراط المستقيم) بالتدريج، ويقع في فخ الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة).
ولذا فإن تكرار (إهدنا الصراط المستقيم) عشر مرات في اليوم، لم يكن ليمنع هذا الانحراف البطيء عند بعض من كانوا من أهل الدين ثم أمسكوا السلطة، فأخذوا يبررون تصرفاتهم بأنها (لخدمة الغاية) بينما هي لا تزيدهم إلا بعدا، (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).
وهنا يأتي دور المنبر الحسيني المستمد من دور سيد الشهداء عليه السلام (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة).
فالوظيفة الكبرى للمنبر أن يبقينا دوماً في حالة يقظة لسلوك أفضل الطرق إلى الله تعالى و(خلاص أنفسنا) مسانداً لدور الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
هذه المجالس العاشورائية التي يستثقل منها بعضهم، مهمتها تذكيرنا بعدم الخروج عن النهج المحمدي بالتدريج ومن حيث لا نشعر، مع مرور الوقت والكدح المستمر في تفاصيل الحياة المعقدة.
من هنا نرى في إحدى فقرات الزيارة الجامعة الكبيرة عبارة تختصر فكرة هذا الضلع، وهي قوله عليه السلام:
(وجعلني من خيار مواليكم، التابعين لما دعوتم إليه وجعلني ممن يقتص آثاركم، ويسلك سبيلكم، ويهتدي بهداكم، ويحشر في زمرتكم)، فالمهم هو أن نقتص آثارهم ونسلك ذات الطريق الذي سلكوه، لا أن نسلك طريقنا الخاص الذي نعتقد أنه أقرب للغاية.
والخلاصة أن الجميع يتفقون على الأولوية الأساسية والوظيفة الكبرى للمنبر، وهي تذكير الناس بالغاية من خلقهم، وإرشادهم إلى السبيل المؤدي إليها، ولكن يبقى الاختلاف في نوع الخطاب المنبري الذي يحقق هذه الغاية، وهو ما ينقلنا إلى الضلع الثاني من المثلث.
يتبع
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat