صفحة الكاتب : ايليا امامي

المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة. ج1
ايليا امامي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الجزء الاول

* في الثلث الثالث من الثمانينات، (لعلها سنة 1987) ، حيث كنت طفلاً، لكنني أتذكر جيداً جولاتي مع والدي حفظه الله وأبقاه خيمة لعبده.

في إحدى المرات، اصطحبني إلى مجلس حسيني في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، ولشدة الازدحام في المجلس أضطررنا للجلوس قرب الباب الخارجي كما هي عادة المجالس الممتلئة.

ثم جاء الخطيب الحسيني وجلس بجوار والدي عند الباب، ليستريح قليلاً قبل الدخول والصعود إلى المنبر، ولاحظ عليه والدي بعض الضيق وعدم الارتياح.

كانت لدى هذا الخطيب عادة حسنة، أن يطلب من أصحاب الاسئلة تركها في قصاصات ورق تحت وسادة المنبر، وكل يوم بعد نزوله يمد يده تحت الوسادة ويجمعها ويأخذها معه ليراجعها في البيت.

وكانت الأجواء في وقتها مشحونة جداً بسبب الحرب بين إيران والعراق، وللأسف فالشيعة كانوا يتساقطون بالآلاف على الجانبين.

بدأ الخطيب يشتكي لوالدي والجالسين حوله، من حالة أصبحت متكررة في هذه القصاصات، وهي أنها تطلب منه بإلحاح، وبإهانة وتجريح أحياناً، التصريح بأسم الطاغية صدام على المنبر وشن هجوم لاذع عليه، أسوة بالخطيب (ع. م) الذي لا تمر ليلة إلا ويلعن فيها صدام على المنبر.

قال الشيخ للجالسين حوله إن هؤلاء الذين يكتبون لي (ليش ما تستنكر ما يفعله صدام) لا يريدون أكثر من تسجيل موقف تكتب عنه إحدى صحف المعارضة في افتتاحيتها الصباحية، ليشعروا بالارتياح لهذا الخبر، ثم يتم نسيان ذلك في اليوم التالي، لكن لا أحد يفكر بأثر هذا الموقف على رسالتي الي أريد إيصالها.

* مضت أيام قليلة، ليعود بعدها والدي من الحسينية ويقول: (الليلة الشيخ أنفجر على المنبر).

نعم عزيزي القارئ.. لقد بلغ الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله -وهو خطيبنا المقصود- ذروة الألم من هذه الاتهامات، ولغة التخوين والتسقيط التي تعرض لها، وقرر أن يتكلم، ويدافع عن رسالة المنبر ورسالته هو، التي ضحى بأولاده وتحمل الغربة لأجلها، وقد كان كلامه في تلك الليلة هو ما نشرته قبل نشر هذا المقال، فاستمع وتدبر.

* نفس المعنى ونفس الكلمات كررها الشيخ الوائلي بعد عقد تقريباً في لقائه مع مجموعة من العراقيين في سوريا، مما يكشف عن الهم الذي كان يحمله طيلة هذه المدة.

* خلاصة رأي الشيخ الوائلي من المقطعين المنتشرين تكمن في ثلاث نقاط:

1. المنبر اختصاص كغيره من الاختصاصات، ويجب أن يتم تكريسه لما أسس من أجله، أي لذكر مصائب أهل البيت وما جرى عليهم، مع بيان العقيدة والمعرفة الدينية المرتبطة بالثقلين، وخروجه عن هذا التخصص تطفل على غيره، كما قد يتطفل أي تخصص على آخر إذا دخل في مساحته.

2. ماذا لو دار الأمر بين (A) و (B) ؟؟

A. تكريس المنبر للرثاء وحفظ عقائد الناس وتغذية عقولهم بمواقف أهل البيت عبر التاريخ دون ربطها باليوميات الحالية و(الأحداث الواقعة) وتركها لأهلها (للمتدين توجد مرجعيات دينية تراقب وتقرر ولغير المتدين توجد دوائر سياسية وفكرية ينتمي لها).

B. إقحام المنبر في المعترك كلما وقع حدث (وما أكثر أحداث هذا الشرق)، واستخدام كلمات ومواقف الحسين عليه السلام في التحشيد للمواقف السياسية، التي سرعان ما تتغير ظروفها وينقلب السلم إلى حرب، أو الحرب إلى مفاوضات، وهكذا.
 
ماذا لو دار الأمر بين (A) و (B) ؟؟

الشيخ الوائلي وبضرس قاطع، يرى الأول هو الأولى، ومع ذلك عندما يكون للمرجعية العليا للشيعة موقف عام يمثل مبادئ الطائفة الشيعية الثابتة وغير القابلة للتغير، ويحتاج لتعزيز وتقوية من قبل المنبر، فالشيخ الوائلي وأمثاله من الخطباء الكرام لن يقفوا متفرجين.


3. مع ذلك، المنبر من الناحية الفعلية ليس منفصلاً عن أحداث عصره، بل يغطي كل المسائل المهمة والكبرى لكن بطريقة لا تؤدي إلى (سجن الخطاب)، بل ببيان العقائد الحقة والمواقف الثابتة لأهل البيت، وفسح المجال للجمهور ليختار تجسيد هذه المواقف في حياته، دون استهلاك المادة الدينية وإغراقها في جزئيات حياة الناس ومنظومة تفكيرها العاطفية المتبدلة المضطربة باستمرار.

ومن هنا قال الشيخ: ( هذا الي يحچي هالحچاية -ليش ما تستنكر-  يفتهم انا شجاي أحچي كل ليلة لو ما يفتهم؟).

* هذه خلاصة رأي (عميد المنبر) في أمور المنبر، وهو عينه رأي كبار الخطباء الذين هم قوام المنبر وعموده.

* وأجد نفسي أشعر بما يفكر به ذاك الشاب المندفع الذي كنته أنا قبل عقدين، وأكاد أسمع ذاك الصوت الذي يصرخ في رأسه بلا توقف:
أليست قضية الحرب مع الكيان المحتل قضية حق؟
أليس إصرار حزب الله على الاحتفاظ بسلاحه قضية حق؟
أليست الإشادة بصمود اليمنيين أمام القوى الغربية قضية حق؟
فلماذا لا يتكلم عنها هؤلاء الخطباء المنفصلون عن الواقع النائمون في كتب التاريخ والحديث؟ 

* وأجد نفسي كذلك أسمع شاباً آخر كنت في مثل عمره وهو يصيح من داخله، حتى يكاد يمزق عقله الباطن:
أليس القصاص من قتلة الشباب في ساحة التحرير قضية حق؟

أليست الحرب على الفاسدين والنهابين لحقوق البلد حرب عادلة؟
ألم يخرج الحسين لطلب الإصلاح أمام سلطة فاسدة؟ 
فأين أنتم من هذه الحقوق التي ينادي بها الشباب يا خطباء منبر الحسين؟!

* بلى .. إنها والله نفس الأصوات المتداخلة التي كانت قبل 20 سنة تصرخ وتهز كل شعرة في رأسي، وكل ذرة في كياني، فقد كان ضميري سنة 2004 ينادي:

الم يصبر الإمام الحسين عليه السلام عشرة سنوات ويكف عن قتال معاوية بعد الإمام الحسن عليه السلام؟
فلماذا لا يتكلم الخطباء على المنبر وينتقدون معارك جيش المهدي؟ 

أليس الدستور العراقي الذي تقاتل لأجله المرجعية ويحفظ الثوابت الدينية هو قضية حق؟ فلماذا يتجنب الخطباء استعراضه وشرحه على المنبر؟

ألم تشجع المرجعية على الانتخابات، ونحن نعرف أنها تفضل انتخاب القائمة 169 للجمعية الوطنية، فلماذا لا نستغل قوة المنبر ونصرح بهذا الأمر؟ 

وكنت في نفسي أقول: لماذا الخطباء يعتبرون أنفسهم بعيدين عن هذه التفاصيل؟ لماذا السيد جاسم الطويرجاوي يركز على استعراض المصيبة؟ والشيخ المقدسي يتصفح أوراق التاريخ، والشيخ إبراهيم النصيراوي كأنه لا يعنيه حالنا، وذاك الشاب الصاعد للتو زمان الحسناوي يركز على التفسير والمواعظ الأخلاقية!! ماذا أصاب هؤلاء؟ أين نحن من هذه المسائل الهادئة بينما الأحداث مشتعلة من حولنا؟!!

* وإنه والله، نفس الصوت الذي كان يصرخ في رأس ابن عمي، الذي كان جندياً مخلصاً في جيش المهدي:
الم يقاتل الحسين عليه السلام رغم قلة العدد وخذلان الناصر؟ لماذا لا يتكلم الخطباء ويطالبون بخروج المحتل؟ 
ألم يقف الحسين عليه السلام وحيداً؟ فلماذا يلومون السيد مقتدى الذي وقف وحيداً ولا يشيدون بموقفه؟
أليست العملية السياسية من صنيعة المحتل؟ فكيف يقبل العراقيون بالدخول فيها؟ أليست هذه عمالة صريحة؟ فعن أي (هيهات منا الذلة) تتكلم أيها الخطيب الخانع؟ 

* هذه كلها -وغيرها كثير- أصوات كانت تصرخ في رؤوسنا نحن شباب ذلك الوقت، وهي كما ترى رغم تناقضها واشتباكها، جرى عليها حكم الزمان فتغير الكثير منها واختفى الكثير وبقي الكثير.. 

ولذا، فانا الذي أتكلم معك، أفهم شعورك ورغبتك أن ترى مصادر قوتنا كالمنبر والشعائر موجهة باتجاه المعركة العقائدية أو الوطنية (حسب توجهك) وحشد الجمهور وتعبئته للقضايا التي تراها حقاً لا لبس فيه.

أفهمك لأني خرجت من معارك سابقة من هذا النوع، ما يزال رمادها عالقاً في عيني، ويريد شبابنا الأحباء الذين فتحوا عيونهم للواقع اليوم أن يخوضوها من جديد، بنفس الأدوات ونفس طريقة التفكير.
أشكر فيك هذا الهم الذي تحمله، وشعورك بالمسؤولية، ولا بأس عليك ايها الصادق المتحمس لعقيدتك أو وطنك، ولكن دع قدامى المحاربين يعطوك بعض النصائح التي ربما تعدل وتوازن  -ولا اقول تغير- من قناعتك

* أحاول معك إعادة تركيب الصورة لترى بوضوح أكثر، ولا تكون ممن ينظرون بسوداوية إلى كل من يتبنى فكرة فصل الخطاب المنبري عن الأحداث الجارية.
لا أريدك أن تغرق في نظرية المؤامرة، مثل ذلك الجاهل الذي يلمح بحصول اختراق صهيوني للمنبر الحسيني، ويرى وجود لوبي مهادن لأمريكا يحرك الخطباء ويسيطر عليهم!!

لا أعرف مدى حضور أمثال هذا في المجالس الحسينية، لأن (الناس أعداء ما جهلوا) وكلما زاد بعدك عن الواقع الشعائري، زاد احتمال تصديقك للسيناريوهات (المضحكة).


* في الجزء الثاني من هذا المقال، ساتكلم عن مثلث قائم الزاوية (يشبه المقطع الجانبي للمنبر الحسيني)، وأعتقد أنك إذا فهمت أضلاع المثلث بوضوح، ستفهم دور المنبر، وموقعه من الأحداث، وما هو المطلوب منه بشكل كامل.

الضلع القائم الأول: يجب أن لا ننسى غاية الوجود.
الضلع القائم الثاني: أولوية الإسماع على الإقناع.
ضلع الوتر: ما معنى المنطقة المحايدة. 


ولا تنزعج أو تمل من تضخيم وتنميق العناوين، فالجزء الثاني رغم بساطته هو الأهم، وأعدك برحلة في الماضي والحاضر مليئة بالشواهد، ستكون ممتعة لك.

يتبع إن شاء الله.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ايليا امامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/15



كتابة تعليق لموضوع : المنبر الحسيني والمنطقة المحايدة. ج1
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net