صفحة الكاتب : نبيل نعمه الجابري

ذاتية الجمال عند العرب والمسلمين
نبيل نعمه الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ((أي شخص يقرأ كثيراً في الجمال والاستيطيقيا لا بد أن يصدمه تضخم الحقائق من جهة، ونقص النهائية من جهة أخرى)) بارتلت
عرف العرب الجمال وخاضوا فيه فيما ذُهب إليه من آراء وأقوال، إلا أنهم برغم ذلك لم تتبلور ولم تتضح ولم تتكون لديهم صورة واضحة عن الجمال ونظريته لا على المستوى الفكري ولا على المستوى التأريخي، وهذا ناشئ من أن تطور النظرية الجمالية هي الصورة التي يتمثل فيها تطور الوعي الجمالي في الامة، لذلك فأن تأريخ هذا الوعي لم يتمثل في تأريخ الفكر العربي بوضوح ودقة.
فالعربي في عصر ما قبل الاسلام عرف الجمال ولمسه لمس اليد الا أنه لم يقف عند أي صفة حسن معنوية، بل كل الصفات التي تعامل معها هي صفات حسية محضة، ويمكن القول بأنها كانت تمثل المعرفة الانطباعية البسيطة والساذجة التي يشترك فيها كل الناس، وهذا يظهر لدينا بوضوح فيما وصل الينا من مرحلة النتاج الفكري والفني وخاصة الشعر كونه كان يمثلها أيما تمثيل، فالعربي نظر للجمال من حيث إقترانه مع الصورة الحسية (فقد كان يعتمد على العين ليكون رائقاً وعلى الفم ليكون لذيذاً وعلى اليد ليكون ناعماً..) كما يعبر الدكتور عز الدين إسماعيل:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش        إذا هي نضته ولا بمعــطل
وفرع يزين المتن أسود فاحـم        أثيث كقنوا النخلة المتعثكل
وإذا انتقلنا للعصر الإسلامي نجد أن نظرة العربي للجمال لم تبتعد كثيراً عما كانت عليه في العصر الذي سبقه برغم من كون القرآن الكريم قد فتح آفاقاً رحبة أمامهم خصوصاً فيما يتعلق بالمسائل التي تتطلب إعمالاً للعقل كمسألة الكون، إلا أنه ظل متمسكاً بالإنفعال بصوره الحسية مبتعداً كل البعد عن الإهتمام بالجمال كفكرة ومضمون، ويرى الدكتور (عز الدين إسماعيل) بأن هناك طريقين لمن يحاول أن يكشف عن النظرة الجمالية عند العرب:
الاول: هو ذلك الذي يدرس النتاج الادبي فيصور موقفه من الجمال وإنفعاله به.
الثاني: هو ما نجده عند المفكرين الذين تمثلت مشكلة الجمال في عقولهم لا في حواسهم.
وما يهمنا أكيد بعد عرضنا إلى نظرة العرب للجمال من خلال نتاجاتهم هو ما توصل إليه المفكر العربي في الجمال، وقبل الخوض في ذلك علينا أن نتتبع مفهوم الجمال كفلسفة وعلم ومن خلالها نتأكد إلى إتجاه إنضوى الجمال عند العرب.
إن دراسة الجمال كعلم يحيلنا إلى تتبع ما كتب فيه عند الفلاسفة اليونانيين ومنهم افلاطون في نظرية (المحاكاة) فالقيم الافلاطونية في الجمال تعد المقياس الذي إعتمد عليه أكثر فلاسفة اليونان من بعده بعدما أضافوا إليها رؤاهم الجمالية...
 فقد دعا افلاطون إلى محاكاة الطبيعة حينما قال: (إن الفن هو محاكاة للطبيعة) بيد أنه يجعل الفن في مرتبة ثانية بالنسبة إلى الحقيقة، ويؤكد على أن الجمال لا يتفق مع الحقيقة والخير أنه يتجلى في المحسوسات، والمحسوسات مرتبة دنيا بالنسبة إلى المعقول الذي ينتمي إليه الخير والحق لذلك طرد الشعراء من جمهوريته.
وقد عد (أرسطو) الذي خالف بعض أفكار استاذه، إذ أشاد بالمحاكاة وقرر أن الفن لا بد أن يحاكي الطبيعة وفق معيار فني وعقلي، فهو يرى أن المحاكاة وسيلة من وسائل التطهر من الانفعالات الضارة ونوعاً من الدواء النفسي، وهذا هو ما دعا الكاتب (أحمد فؤاد الأهواني)  في تقرير الجمال المنشور في مجلة الكاتب إلى أن يقول في أن الجمال لدى افلاطون وربما اليونان عامة موضوعي لا شخصي أي ان الميزان في تقرير الاشياء الجميلة ميزان مستمد من طبيعة الاشياء نفسها، فلا يقوم على هوى الشخص أو مزاجه.
بعدها تعددت وتنوعت الآراء القائلة بالجمال، بين النافع وبين ما لا يحقق المنفعة، وبين النسبية والوظيفية، وبين ما يحقق للنفس السعادة تشعب المفهوم وأصبح لزاماً أن ينفصل عن الفلسفة، ويكون علماً بحد ذاته، وهذا لم يتحقق الا على يد(الكسندر بومجارتن) 1762م ذلك في كتابه (تأملات فلسفية في موضوعات تتعلق بالشعر) وأصبح حينها العلم الذي يدرس الجمال الخاص بالمعرفة الحسية يدعى الإستيطيقيا.
عودة على ذي بدء ولنقارن بين نظرة العرب للجمال وبين النظرة الغربية أو اليونانية له نجد إن هناك بوناً شاسعاً بين الامرين، فعلى مستوى المصطلح فأن العرب تعاملوا مع الجمال على أنه علم يدرس المدركات الحسية تحت ما سمي بعد ذلك بـ(الإستيطيقيا)، بالمقابل كان التعامل مع الجمال على أساس أنه فرع من فروع الفلسفة، وما يؤكد ذلك مجموعة أقوال لأشهر الفلاسفة المسلمين، ومنهم إبن سينا وهو يؤكد على النزعة الحسية العامة في تفسير الجميل من حيث كونه غاية تختلف عن الغايات ولا يمتزج بها، والغايات عند ثلاث (خير ونافع ولذيذ)، وهذا أبو حيان التوحيدي يضع موقفاً من الجمال والقبيح يتمثل في نسبية القول حين يلمس الاسس التي يقوم عليها الحكم الجمالي بصفة عامة فهو في كتابه (الامتاع والمؤانسة) يقول: (فأما الحسن والقبيح فلا بد له من البحث اللطيف عنهما حتى لا يجوز فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، فيأتي القبيح على أنه حسن ويرفض الحسن على أنه قبيح) وهي أيضاً بما فيها من بعد فيها توجه حسي اكثر مما هو فكري.
والمسألة الثاني تتمثل في المقياس أو الاساس الذي نستطيع أن نحكم به الجمال لدى العرب من خلال النظرتين اللتين فصلهما عز الدين إسماعيل هو مقياس(عاطفي حسي ذاتي) في الغالب، بينما بالمقابل فأن الحكم على الجمال قائم أساس عقلي فكري منطقي، فالغزالي يرى أن الجمال يتذبذب بين الحسي والمدرك ويغلب الحسي في النهاية في تصويره للحب فهو لا يتصور معرفة إلا بعد إحساس وإدراك، ولذلك فهو لم يتصور أن يتصف الحب جماداً بل هو من خاصية الحي المدرك حين يقول: (والقلب أشد إدراكاً من العين، وما المعاني المدركة بالأبصار أعظم من جمال المعاني المدركة بالعقول).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل نعمه الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/15



كتابة تعليق لموضوع : ذاتية الجمال عند العرب والمسلمين
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net