صفحة الكاتب : الشيخ عبد الرزاق فرج الله

مشكلة الحياد السلبي في ساحة الصراع  والتحديات ح2
الشيخ عبد الرزاق فرج الله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

    نعم كان الحياديون آنذاك يعرفون ويميزون بين الحق وأهله , وبين الباطل وأهله , لكنهم اتخذوا من الحيادية والإعتزال موقفا للتخلص من عناء الصراع القائم بين الخطين , ولا ندري هل غاب عنهم أن المطلوب منهم أن ينصروا الحق ويخذلوا الباطل ؟ وهل غاب عنهم أن المسؤولية لا تعرف الحيادية في واقع الصراع الصريح بين الحق والباطل ؟ .
    لذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) ينعى ذلك الواقع الحيادي الذي كان سببا في تخلف الأمة عن حقها , وعاملا من عوامل الإستضعاف في كافة مواقفها السياسية والدينية والإقتصادية والثقافية , فقد أدلى بالخطاب إلى الجميع قائلا : ( أيها الناس , لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق , ولم تتهاونوا عن تضعيف الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم )   
    ويمتد هذا النداء ما دامت هذه المشكلة , إلى عصرنا الحاضر , في سمع كل الذين يختلقون الأعذار في  إعتزال الواقع , ويحاولون الإلتفاف على بعض النصوص , فيتمسكون بما يستفيدونه منها لخدمة هذا الموقف .
     كما ورد أنّ أبا ثعلبة , دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) , وسأله عن قوله تعالى : ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) المائدة : 105 , فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا وتمسك كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ) .
     ففي الوقت الذي تعتبر هذه الرواية – إن صحت –  من أصرح النصوص على عظمة المسؤولية الإجتماعية , لأنها تؤكد على الحذر من مادة الفساد , والتوقي من عوامل الإنحراف , وتدعو إلى الإهتمام ببناء النفس كمنطلق أساسي لخوض معترك الصراع الصعب , وكما جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) : ( ميدانكم الأول أنفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز ) .
    وفي الوقت الذي يتعارض تفسير الرّواية بالحياد , مع النصوص التي تلزم الإنسان المسلم بالعمل على مواجهة شتى ألوان الإنحراف بروح المسؤولية والهم الإسلامي المشترك , فإنّ فريقا كبيرا من الناس يلتزمون موقف الحياد في خضم الصراعات والتحديات . 
     مضافا إلى ذلك , فإنّ هناك من يتمسّك بمقولة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) : ( كن في الفتنة كإبن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب ) , فيتخذ ذلك ذريعة للصّمت عن المجاهرة بالحق في ساحة الصراع والمواجهة , في الوقت الذي لا بدّ فيه من تحديد موقع الفتنة , والذي معه سمّيت الفتنة فتنة في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) , حيث أنّ هناك نوعين من مواقع الصراع الذي يختزن الفتنة : 
     الأول : هو الصراع الصريح بين الباطل والباطل , فهو من مواقع الفتنة لأنّ كلا من أطراف الصّراع يحاول أن يقدّم للناس عدّة من الإغراءآت والوعود , ويزيّن لهم ويفتنهم بمفاهيمه وطروحاته , ليجتذب ويكسب ما يريد من مواقف التأييد والنصرة . 
    الثاني : من مواقع الفتنة , هو الموقع الذي يتحرّك فيه الصراع في جوّ من الضباب والعتمة , فلم يستطع الإنسان أن يميّز بين الحق والباطل , وهو موقع الشبهة والإلتباس الشديد . 
     ففي أي من الصراعين يؤكد الإمام علي (عليه السلام ) للمؤمن أن يكون حذرا من أن يستغله طرف لحسابه , ويوقعه في شراك فتنته , ويمتطي ظهره ويستحلب طاقاته الفكرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية للوصول إلى غايته , فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن يرتجل موقفه , ويكون مع هذا أو ذاك ما لم تتضح له الرؤية , وتزول الضبابية عن موقع الصراع . 
     إلا أن أناسا حاولوا أن يلتزموا الحياد حتى في حالة الوضوح , حرصا منهم على مصالحهم ومطامحهم المادية , إنهم فريق من الناس الضعفاء الإيمان , الذين لا يستطيعون الصبر على الأذى في سبيل الله , فترى أحدهم ( إذا أوذي   في الله جعل فتنة الناس ) والأذى الذي يوجّهونه للمؤمنين كعذاب الله وجزائه الذي يوجّهه للمسيء المقصر .
      لذا عرض القرآن الكريم لهذا النمط من الناس عدّة خصائص :
     1- : حالة الإضطراب , والتردّد , وعدم الجرأة على اقتحام الأهوال ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) العنكبوت : 10. وفي آية أخرى قال تعالى : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) الأحزاب : 19 .
    2- : حالة الشح بالخير على الناس وعلى كلّ خير , فهم لا يفكرون إلا بأنفسهم ومصالحهم , ويتجاهلون حاجة الأمّة إلى جهودهم وحركتهم ( أشحّة عليكم – إلى قوله تعالى : - أشحّة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ) الأحزاب : 19 .
3- : حالة الإنتهازية لفرص الرّخاء بغية الحصول على المنفعة الذاتية بأي طريق من الطرق , ( ولئن جاء نصر من ربك ) وبسطت الحياة جناحها للمؤمنين , ( ليقولن إنا كنا معكم ) في العذاب والمعاناة , فنبتغي نصيبنا وحظنا مما آتاكم الله من الرخاء والنعمة .
    4- : حالة الضعف في الإيمان والعقيدة , وغياب المعرفة بالله عزّوجل بصفته المطلع والعالم بكلّ خفايا وكوامن النفس ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) العنكبوت : 10 .
    ولعلاج هذه المشكلة التي قد تتحول إلى موقف أمة أو شعب , نستذكر كلام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام ) لبعض أصحابه من خلال حديثين : 
   الأول : - قوله (عليه السلام ) : ( أبلغ خيرا وقل خيرا ولا تكن إمّعة ) , قال : وما الإمّعة ؟ قال : ( أن تقول : أنا مع الناس , وأنا كواحد من الناس , فإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنما هما نجدان , نجد خير ونجد شر , فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ) . 
     أي : لا ينبغي أن تواجه الحياة في صراعاتها بالطريقة الحيادية السلبية , بحيث لا تتعب نفسك وفكرك في اختيار أيّ من الطريقين , أولا تكرّس إمكاناتك في خوض الموقف ومواجهة ساحة الصراع , إذ هما موقفان لا ثالث لهما بحكم المسؤولية , إما أن تكون مع الخير أو تكون مع الشر .
    فلا تقل : أنا واحد من الناس أو أنا فرد من أمة بعقلية الإعتزال والهروب من حلبة الصراع والمواجهة , بل قل : أنا واحد من الناس بعقلية  الإنتماء  والإنضمام إلى الرقم الكلي الذي يكوّن بناء الأمّة , وينتهي بها إلى النجاح وإحراز النتيجة الإيجابية في خضم صراعها مع أعدائها . 
    وهو الرقم الذي يتحرّك في إطار العنوان والهم المشترك , والذي لا تؤطره العناوين والتصورات المستوحاة من نظرية طائفية أو قومية أو إقليمية أو حزبية , تخسر الأمّة في ظلها الكثير من مواقفها وقضاياها وغاياتها , وتتشرذم طاقاتها وإمكاناتها هنا وهناك . 
    الثاني : - قوله (عليه السلام ) لهشام بن الحكم : ( يا هشام لو كانت في يدك جوزة , وقال الناس : أنها لؤلؤة ما نفعك , ولو كان في يدك لؤلؤة , وقال الناس : أنها جوزة ما ضرك ) .
    أي : عليك أن تؤمن بأصالة فكرك , وتثق بتسديد خالقك عزوجل , وأن تعمل ببصيرتك لا ببصيرة غيرك , لأنك أخبر وأعلم بحجم ذاتك وقدراتك , وأن مواقفك هي التي ترفعك أو تضعك , فمن أراد أن يضعك إلى دون ما تستحق لا يضرك , ومن أراد أن يرفعك فوق ما تستحق لا ينفعك . 
     ومن هنا , فإن كنت على الحق وأنت تعلم أنك على الحق , فلا تنهزم أمام تقولات الناس فيك وتثبيطهم إياك , فإنهم يساهمون في خذلانك ويدعونك إلى الحيادية والهروب من الواقع .
     وإن كنت على الباطل وأراد الآخرون أن يزيّنوا لك الباطل , ويغرونك على العمل به , وأنت على قناعة بأنّك على باطل , فلا يخرجك هذا التزيين والإغراء عن مسؤولية عملك .  
                     وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عبد الرزاق فرج الله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/08



كتابة تعليق لموضوع : مشكلة الحياد السلبي في ساحة الصراع  والتحديات ح2
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net