نعم كان الحياديون آنذاك يعرفون ويميزون بين الحق وأهله , وبين الباطل وأهله , لكنهم اتخذوا من الحيادية والإعتزال موقفا للتخلص من عناء الصراع القائم بين الخطين , ولا ندري هل غاب عنهم أن المطلوب منهم أن ينصروا الحق ويخذلوا الباطل ؟ وهل غاب عنهم أن المسؤولية لا تعرف الحيادية في واقع الصراع الصريح بين الحق والباطل ؟ .
لذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) ينعى ذلك الواقع الحيادي الذي كان سببا في تخلف الأمة عن حقها , وعاملا من عوامل الإستضعاف في كافة مواقفها السياسية والدينية والإقتصادية والثقافية , فقد أدلى بالخطاب إلى الجميع قائلا : ( أيها الناس , لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق , ولم تتهاونوا عن تضعيف الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم )
ويمتد هذا النداء ما دامت هذه المشكلة , إلى عصرنا الحاضر , في سمع كل الذين يختلقون الأعذار في إعتزال الواقع , ويحاولون الإلتفاف على بعض النصوص , فيتمسكون بما يستفيدونه منها لخدمة هذا الموقف .
كما ورد أنّ أبا ثعلبة , دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) , وسأله عن قوله تعالى : ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) المائدة : 105 , فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا وتمسك كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ) .
ففي الوقت الذي تعتبر هذه الرواية – إن صحت – من أصرح النصوص على عظمة المسؤولية الإجتماعية , لأنها تؤكد على الحذر من مادة الفساد , والتوقي من عوامل الإنحراف , وتدعو إلى الإهتمام ببناء النفس كمنطلق أساسي لخوض معترك الصراع الصعب , وكما جاء عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) : ( ميدانكم الأول أنفسكم فإن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز ) .
وفي الوقت الذي يتعارض تفسير الرّواية بالحياد , مع النصوص التي تلزم الإنسان المسلم بالعمل على مواجهة شتى ألوان الإنحراف بروح المسؤولية والهم الإسلامي المشترك , فإنّ فريقا كبيرا من الناس يلتزمون موقف الحياد في خضم الصراعات والتحديات .
مضافا إلى ذلك , فإنّ هناك من يتمسّك بمقولة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) : ( كن في الفتنة كإبن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب ) , فيتخذ ذلك ذريعة للصّمت عن المجاهرة بالحق في ساحة الصراع والمواجهة , في الوقت الذي لا بدّ فيه من تحديد موقع الفتنة , والذي معه سمّيت الفتنة فتنة في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) , حيث أنّ هناك نوعين من مواقع الصراع الذي يختزن الفتنة :
الأول : هو الصراع الصريح بين الباطل والباطل , فهو من مواقع الفتنة لأنّ كلا من أطراف الصّراع يحاول أن يقدّم للناس عدّة من الإغراءآت والوعود , ويزيّن لهم ويفتنهم بمفاهيمه وطروحاته , ليجتذب ويكسب ما يريد من مواقف التأييد والنصرة .
الثاني : من مواقع الفتنة , هو الموقع الذي يتحرّك فيه الصراع في جوّ من الضباب والعتمة , فلم يستطع الإنسان أن يميّز بين الحق والباطل , وهو موقع الشبهة والإلتباس الشديد .
ففي أي من الصراعين يؤكد الإمام علي (عليه السلام ) للمؤمن أن يكون حذرا من أن يستغله طرف لحسابه , ويوقعه في شراك فتنته , ويمتطي ظهره ويستحلب طاقاته الفكرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية للوصول إلى غايته , فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن يرتجل موقفه , ويكون مع هذا أو ذاك ما لم تتضح له الرؤية , وتزول الضبابية عن موقع الصراع .
إلا أن أناسا حاولوا أن يلتزموا الحياد حتى في حالة الوضوح , حرصا منهم على مصالحهم ومطامحهم المادية , إنهم فريق من الناس الضعفاء الإيمان , الذين لا يستطيعون الصبر على الأذى في سبيل الله , فترى أحدهم ( إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس ) والأذى الذي يوجّهونه للمؤمنين كعذاب الله وجزائه الذي يوجّهه للمسيء المقصر .
لذا عرض القرآن الكريم لهذا النمط من الناس عدّة خصائص :
1- : حالة الإضطراب , والتردّد , وعدم الجرأة على اقتحام الأهوال ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) العنكبوت : 10. وفي آية أخرى قال تعالى : ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) الأحزاب : 19 .
2- : حالة الشح بالخير على الناس وعلى كلّ خير , فهم لا يفكرون إلا بأنفسهم ومصالحهم , ويتجاهلون حاجة الأمّة إلى جهودهم وحركتهم ( أشحّة عليكم – إلى قوله تعالى : - أشحّة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ) الأحزاب : 19 .
3- : حالة الإنتهازية لفرص الرّخاء بغية الحصول على المنفعة الذاتية بأي طريق من الطرق , ( ولئن جاء نصر من ربك ) وبسطت الحياة جناحها للمؤمنين , ( ليقولن إنا كنا معكم ) في العذاب والمعاناة , فنبتغي نصيبنا وحظنا مما آتاكم الله من الرخاء والنعمة .
4- : حالة الضعف في الإيمان والعقيدة , وغياب المعرفة بالله عزّوجل بصفته المطلع والعالم بكلّ خفايا وكوامن النفس ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) العنكبوت : 10 .
ولعلاج هذه المشكلة التي قد تتحول إلى موقف أمة أو شعب , نستذكر كلام الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام ) لبعض أصحابه من خلال حديثين :
الأول : - قوله (عليه السلام ) : ( أبلغ خيرا وقل خيرا ولا تكن إمّعة ) , قال : وما الإمّعة ؟ قال : ( أن تقول : أنا مع الناس , وأنا كواحد من الناس , فإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنما هما نجدان , نجد خير ونجد شر , فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ) .
أي : لا ينبغي أن تواجه الحياة في صراعاتها بالطريقة الحيادية السلبية , بحيث لا تتعب نفسك وفكرك في اختيار أيّ من الطريقين , أولا تكرّس إمكاناتك في خوض الموقف ومواجهة ساحة الصراع , إذ هما موقفان لا ثالث لهما بحكم المسؤولية , إما أن تكون مع الخير أو تكون مع الشر .
فلا تقل : أنا واحد من الناس أو أنا فرد من أمة بعقلية الإعتزال والهروب من حلبة الصراع والمواجهة , بل قل : أنا واحد من الناس بعقلية الإنتماء والإنضمام إلى الرقم الكلي الذي يكوّن بناء الأمّة , وينتهي بها إلى النجاح وإحراز النتيجة الإيجابية في خضم صراعها مع أعدائها .
وهو الرقم الذي يتحرّك في إطار العنوان والهم المشترك , والذي لا تؤطره العناوين والتصورات المستوحاة من نظرية طائفية أو قومية أو إقليمية أو حزبية , تخسر الأمّة في ظلها الكثير من مواقفها وقضاياها وغاياتها , وتتشرذم طاقاتها وإمكاناتها هنا وهناك .
الثاني : - قوله (عليه السلام ) لهشام بن الحكم : ( يا هشام لو كانت في يدك جوزة , وقال الناس : أنها لؤلؤة ما نفعك , ولو كان في يدك لؤلؤة , وقال الناس : أنها جوزة ما ضرك ) .
أي : عليك أن تؤمن بأصالة فكرك , وتثق بتسديد خالقك عزوجل , وأن تعمل ببصيرتك لا ببصيرة غيرك , لأنك أخبر وأعلم بحجم ذاتك وقدراتك , وأن مواقفك هي التي ترفعك أو تضعك , فمن أراد أن يضعك إلى دون ما تستحق لا يضرك , ومن أراد أن يرفعك فوق ما تستحق لا ينفعك .
ومن هنا , فإن كنت على الحق وأنت تعلم أنك على الحق , فلا تنهزم أمام تقولات الناس فيك وتثبيطهم إياك , فإنهم يساهمون في خذلانك ويدعونك إلى الحيادية والهروب من الواقع .
وإن كنت على الباطل وأراد الآخرون أن يزيّنوا لك الباطل , ويغرونك على العمل به , وأنت على قناعة بأنّك على باطل , فلا يخرجك هذا التزيين والإغراء عن مسؤولية عملك .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
|