القتال في الإسلام وسيلة أم غاية؟ (2)
الشيخ عبد الرزاق فرج الله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ عبد الرزاق فرج الله

ثانياً: لم يعهد من رسول الله (ص) أنه استعمل أسلوب القسوة والشدة في وجه الذين عارضوه، وجابهوا كلمته بالرفض والازدراء، بل كان ليناً معهم في إخراج الحالات وأقساها في حقه، حيث تدمى قدماه، وتكسر ثناياه بالأحجار، فيستند إلى متكأ، وقد ألم به التعب والعناء، وهو يقول: {اللهم اغفر لقومي أنهم لا يعلمون} بل حتى في لحظات النصر والغلبة التي يطأطئ العدو هامه فيها ذليلاً منكسراً، كان رسول الله (ص) يغيض ليناً ورحمة في الوقت الذي كان بإمكانه أن يستعبد أعداءه.
ففي فتح مكة: إذ يغلب يتنمر الفاتحون، ويتعالى الأقوياء على أعدائهم في هكذا ظرف- كان رسول الله (ص) يخاطب أولئك قائلاً: (يا معشر قريش إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم قال: (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً... أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ثالثاً: هناك من المستشرقين أنفسهم من درسوا تاريخ الإسلام بعمق وسعة أفق قد أجبرهم الواقع الإسلامي والمنطق الإنساني على الإدلاء بشهادتهم في حق الإسلام.
ومن هؤلاء (ارنولد) في بعض مقالاته عن تأريخ الإسلام: وينبغي أن يعلم القارئ أننا لم نضع هذا الكتاب لدراسة تاريخ الاضطهادات الإسلامية، تأمّل قليلاً وتفكر بعيداً ليتضح لك ما لهذا القول من معان كثيرة، وكأن الإسلام في تاريخه الطويل مليء بموجات الاضطهاد، ولكننا إذا درسنا هذا التاريخ بنزاهة حقيقية، وعقل متبصِّر متزن، نجد أنه فارغ من كل ما قيل ويقال، وانه انتشر بالتغير الفكري والروحي، وتحول جمهرة الناس من حالة الجاهلية الرعناء إلى حياة إسلامية صافية، يرفرف عليها الهناء والراحة والوحدة: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) سورة الرعد: 11
ويضاف إلى ذلك آراء بعض الشخصيات الغربية التي اعتنقت الإسلام بعد البحث والتتبع العميق لروح الإسلام وفكره ومنهجه، ومنهم اللورد (هيدلي) رئيس الجمعية الإسلامية البريطانية، حيث قال: {ينظر الأوربيون دائماً إلى الإسلام كأنه وحش وهمجية، فلو عملوا كل ما فعله محمد (ص) لإزالة التوحش والهمجية التي لقيها داخل بلاد العرب لغيّروا تلك الأفكار}.
ويقول الدكتور (جرموناس): إن محمدا (ص) رسول الله الأعظم، مصلح صوري عرفه التاريخ، مؤيد بوحي من عند الله تعالى، ونحن مأمورون أن نفهم تعاليمه ونطبقها على شؤون حياتنا الدنيوية مع الإيمان، بأن ما أوحى إليه إنما هو أساس لا يهتز ولا يتعثر لكونه إلهياً.
رابعاً: حتى الحروب والفتوح التي وسعت من رقعة الدولة الإسلامية، لم تكن هي المبدأ والقاعدة الثابتة، وإنما هي استثناء والقاعدة الثابتة هي قاعدة السلم واحترام الدم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} البقرة: 208.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} النساء: 94
روي أن مرداس بن نهيل أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله (ص) فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل الجأ غنمه إلى منعرج من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبّروا كبر ونزل، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله (ص) فوجد (أي حزن) وجداً شديداً وقال: قـتلتموه أراد ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة... تفسير النسفي 1/244.
وهكذا ينبه القرآن الكريم إلى أية سلبية لا تتفق مع نظريته، ويبني من خلال التنبيه عقلية الإنسان المؤمن على أساس ما يتبنى من قواعد ومبادئ فكرية وعلمية، وتأكيداً على نظرية الحق الإنساني في الحياة الآمنة الكريمة، قال رسول الله (ص): {لئن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من قطرة دم حرام تراق} والذي يؤكد على القاعدة الأساسية لبناء الإسلام، وهي خط احترام الدم وحق الإنسان في العيش بحرية وكرامة، وعدم الإكراه على اختيار العقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} البقرة: 256.
ويأتي احترام الدم في حدود الأمن خطره وظلمه على الإسلام والمسلمين، حتى ولو كان دم المشرك: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) التوبة: 6.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat