خَنَقَني المَعنَى لِسِنينَ، وَلَم أَكُن أَعرِفُ اسمَهُ
رياض السيد عبد الأمير الفاضلي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض السيد عبد الأمير الفاضلي

سَنَواتٌ مِنَ المُعاناةِ الصّامِتَةِ، كَأَنَّ في حَلقي شيئًا عالِقًا، لا يُهضَمُ ولا يُزاح، يُثْقِلُ النَّفْسَ، وَيَخنُقُ الكَلِمَةَ، وَيُورِثُني شُعورًا دائِمًا بِالاخْتِناقِ المَعْنَوِيّ. لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُدرِكُ ما أُعانِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ عَلاماتُهُ في قَلَمي المُرْتَبِكِ، كُلّما هَمَمْتُ بِالكِتابَةِ عَن فِكرَةٍ عَميقَةٍ، أَو نَصٍّ مُرَكَّبٍ.
كُنتُ أَجِدُ نَفسي في الكِتابَةِ الوَصْفِيَّةِ، وَأَمِيلُ إلى المَقالَةِ الصَّحَفِيَّةِ، وَأُحْسِنُ التَّعبيرَ الشَّفَهِيَّ، بَل أُجِيدُ الإقْناعَ في الحَديثِ المُباشِرِ،
لكنِّي كُنتُ أَختَنِقُ أَمامَ ما يَستَدْعي تَفْكِيكًا عَقْلِيًّا دَقِيقًا، أَو بِنَاءً تَحلِيلِيًّا مُتَماسِكًا.
كان سُؤالِيَ المُؤَرِّقُ لي:
كَيْفَ أَقول ما أُفَكِّرُ بِهِ؟ كَيْفَ أَكْتُبُ عن فِكرَةٍ عِلمِيَّةٍ أُؤمِنُ بِها، أو عن نَصٍّ أَشعُرُ بِهِ بِعُمقٍ، وَلكِن لا أَجِدُ لَهُ لِسانًا؟ لَم أَكُن أَجهَلُ الفِكرَةَ، بَل كُنتُ أَجهَلُ الطَّرِيقَ إِلَيها. ثُمَّ يَسَّرَ اللهُ لي مَن أَخَذَ بِيَدي حفظهما الله تعالى لا لِيَكتُبَ عنِّي، بَل لِيُرِينِيَ الطَّرِيقَ، كَما يَأخُذُ الوالدُ يَدَ طِفلِهِ لِيُعَلِّمَهُ خُطْوَتَهُ الأُولى.
وَحينَها فَقَط، أَدركتُ أَنَّ اختِنَاقِي لَم يَكُن ضِيقَ فِكرَةٍ، بَل فَقْدَ تَمرِينٍ عَلَى الكِتابَةِ التَّحلِيلِيَّةِ. كُنتُ أعرِف بأنّني أَملِك شَيئًا أُريدُ أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي لَم أَكُن أَعرِفُ كَيْفَ أَقُولُهُ كَما يَنبَغِي.
الآن، لَم أَبلُغِ المَرامَ بَعدُ، وَلكِنِّي عَلَى الطَّرِيق. لَم أَعُدْ أُطالِبُ نَفسي أَنْ أَكتُبَ كَما يَكتُبُ المُحترِفُونَ، وَلا أَنْ أُتقِنَ ما كُنتُ أَجهَلُهُ،
بَل يَكفِيني أَنِّي عَلِمتُ ما يَنقُصُنِي، وَأنِّي أسأله تعالى أن يوفّقني لأتَمرَّن عَلَيه، خُطوَة بَعدَ خُطوَة.
وَإِن بَقِيَ قَلَمي مُتَردِّدًا، فَلَن أَعُودَ إِلَى الصَّمتِ بحول الله تعالىوقوّتهِ، لِأَنَّه يسّر لي فَهِمُ أَنَّ المَعنى لا يُولَدُ صَافِيًا، بَل يُنتَزَعُ مِن قَلْبِ التَّرَدُّدِ. وَلَعَلَّ أَوَّلَ الكِتابَةِ: أَنْ تَعْتَرِفَ أَنَّكَ لَم تُحْسِنْها بَعدُ، ثُمَّ تَكتُبَ… رَغْمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّكَ _يا صاحب القلم _ إِن لَم تَكتُبْ وانت تعرف النمط التحليلي، اخْتَنَقَ المَعْنَى فِي داخلك وأرّق إِلَى الأَبَدِ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat