عرفات وكربلاء: محطتان للمغفرة وتجديد العهد – "قراءة موجزة في الأبعاد الروحيّة والإجتماعيّة لليوم المشهود"
محمد السمناوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد السمناوي

المستخلص
تُعدّ وقفة عرفة من أعظم الشعائر الدينية، حيث تتجلى فيها معاني التوبة، الندم، والتجديد الروحي للمسلمين. يتناول هذا البحث يوم عرفة، المعروف بـ"اليوم المشهود"، بوصفه نقطة تحول كبرى في مسيرة العبد نحو المغفرة الإلهية، من خلال قراءة معمّقة لأبعاده الروحية والاجتماعية. تُسلّط الدراسة الضوء على التسميات المختلفة ليوم عرفة، وفوائد الدعاء والتضرع فيه، وأثر المواجهة الروحية مع شيطان "الرّها" (الكسل والفتور) التي وردت في الأحاديث الشريفة، كما يركز البحث على العلاقة الروحية والتكاملية بين وقفة عرفة في المشعر الحرام وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، مُبيّناً كيف تتلاقى بركات المغفرة الإلهية في هاتين المحطتين المقدستين. ويؤكد أن كربلاء، بدماء شهدائها، قد حفظت شعيرة عرفة، وأن النظرة الإلهية للمغفرة تشمل زوار الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة. يهدف البحث إلى تعزيز فهم المسلمين لأهمية هذا اليوم كفرصة لتطهير القلوب، وتجديد العهد مع الله، وتحقيق التماسك الاجتماعي المبني على القيم الروحية والأخلاقية، مقترحاً أن يكون عرفة "يوماً عالمياً" لمعالجة الأمراض الروحية والعقدية.
الكلمات المفتاحية: عرفة، كربلاء، المغفرة، تجديد العهد، اليوم المشهود، أبعاد روحية، أبعاد اجتماعية، التوبة، زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
Abstract
The Day of Arafah stands as one of the greatest religious rites, manifesting profound meanings of repentance, remorse, and spiritual renewal for Muslims. This research examines the Day of Arafah, known as "the Witnessed Day" (Al-Yawm Al-Mashhud), as a major turning point in the worshiper's journey toward divine forgiveness. It offers an in-depth reading of its spiritual and social dimensions. The study highlights the various appellations for the Day of Arafah, the benefits of supplication and humility during it, and the impact of the spiritual confrontation with "al-Raha" (lethargy and spiritual apathy), as narrated in the noble Hadith.
The research also focuses on the spiritual and complementary relationship between the standing at Arafah in the Sacred Mash'ar and the visitation to Imam Hussein (peace be upon him) in Karbala. It illustrates how the blessings of divine forgiveness converge at these two holy stations. The study affirms that Karbala, through the blood of its martyrs, preserved the ritual of Arafah, and that God's gaze of forgiveness particularly includes visitors to Imam Hussein (peace be upon him). This research aims to enhance Muslims' understanding of the significance of this day as an opportunity to purify hearts, renew their covenant with God, and achieve social cohesion based on spiritual and ethical values, proposing that Arafah be recognized as a "universal day" for addressing spiritual and ideological ailments.
Keywords: Arafah, Karbala, Forgiveness, Renewing the Covenant, Al-Yawm Al-Mashhud (The Witnessed Day), Spiritual Dimensions, Social Dimensions, Repentance, Visitation to Imam Hussein (AS).
مقدمة:
أولاً: بيان الموضوع
تُعدّ وقفة عرفة من أسمى الشعائر في الإسلام، فهي ليست مجرد ركن من أركان الحج، بل هي محطة روحية عميقة تتجلى فيها أسمى معاني التوبة، الندم، والتجديد الروحي للمسلمين. هذا اليوم، الذي يُعرف بـ"اليوم المشهود" في النصوص الشريفة، يمثل فرصة استثنائية للعباد لتطهير أنفسهم وتجديد عهدهم مع خالقهم. وفي سياق الثقافة الشيعية، يبرز ارتباط روحي عميق بين عرفات وكربلاء، لا سيما زيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم المبارك، مما يضفي بعداً إضافياً على مفهوم المغفرة وتجديد العهد.
ثانياً: إشكالية البحث
تتمركز إشكالية هذا البحث في فهم الأبعاد الروحية والاجتماعية المتكاملة ليوم عرفة كـ"يوم مشهود" يتجاوز حدوده الجغرافية ليشمل كربلاء كمحطة موازية للمغفرة وتجديد العهد. فبينما تُعرف عرفات بكونها محطة الحج الكبرى التي يتقاطر إليها الملايين، تُشير العديد من الروايات إلى فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم، بل وتُفضلها على الوقوف بعرفة لمن تعذّر عليه الحج. هذا التلاقي الروحي يثير تساؤلات حول كيفية تداخل هذه الأبعاد، وكيف يمكن قراءة هذا الترابط لتعزيز فهم المسلمين لأهمية هذا اليوم. ما هي أبرز الدلالات الروحية لمفاهيم التوبة والمغفرة وتجديد العهد في يوم عرفة؟ وكيف تتجلى هذه المفاهيم في وقفتي عرفات وزيارة كربلاء؟ وما هي الآثار الاجتماعية المترتبة على هذه الشعائر في بناء التماسك المجتمعي؟
ثالثاً: أهمية البحث
تنبع أهمية هذا البحث من كونه يسعى إلى تقديم قراءة موجزة ومتعمقة للترابط بين محطتين محوريتين في الوجدان الإسلامي الشيعي: عرفات وكربلاء، كبوابتين للمغفرة وتجديد العهد. ففي عصر تتزايد فيه التحديات الروحية والاجتماعية، يُعدّ تسليط الضوء على هذه الشعائر ودلالاتها الحقيقية أمراً حيوياً لتعزيز الوعي الديني، وتقوية الروابط الإيمانية، وإبراز الدور الإيجابي لهذه المناسبات في تشكيل سلوك الفرد والمجتمع. كما يساهم البحث في إثراء المكتبة الإسلامية بتحليل يجمع بين الجانب الروحي العميق والأبعاد الاجتماعية الملموسة.
رابعاً: أهداف البحث
يهدف هذا البحث إلى تحقيق الأهداف التالية:
1. استجلاء مفهوم "اليوم المشهود" ودلالاته الروحية في سياق يوم عرفة.
2. تحليل الأبعاد الروحية ليوم عرفة، بما في ذلك مفاهيم التوبة، الندم، والمغفرة الإلهية.
3. بيان الترابط الروحي والمفهومي بين وقفة عرفات وزيارة كربلاء في يوم عرفة، ودورهما كمحطتين لتجديد العهد والمغفرة.
4. تحديد الآثار الاجتماعية المترتبة على إحياء هذه الشعائر في تعزيز التماسك المجتمعي والقيم الأخلاقية.
وبعد، فإن الحديث عن يوم عرفة ليس مجرد حديث عن زمان ومكان في مناسك الحج، بل هو سبرٌ لأغوار نفس المؤمن، واستجلاءٌ لأبعاد روحية واجتماعية عميقة، تتصل بتطهير الذات، وتجديد العهد مع الله تعالى، وتعزيز القيم التي أرساها الإسلام. وسوف نتناول في هذا البحث الموجز، أهمية هذا اليوم المبارك، ودلالاته، مع إشارة خاصة لترابطه الروحي بمدينة كربلاء المقدسة، وذلك وفق النقاط الآتية:
أولاً: عرفة: الاسم والدلالة والقدسية
تُعرف "عرفة" في اللغة والجغرافيا بأنها اسم للجبل الذي يقف عنده الحجاج، بينما تُطلق "عرفات" كصيغة جمع تعظيم أو إشارة إلى المنطقة المحيطة به، على نحو التقدير. وقد ورد ذكر عرفات في القرآن الكريم بلفظ الجمع في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ﴾ (البقرة: 198). هذه الآية الكريمة تحدد عرفات كمحطة أساسية في مسار الحج، وبعد الإفاضة منها، يأتي دور ذكر الله عند المشعر الحرام، ما يؤكد على الأهمية العبادية والتكليفية لهذا الموقف.
وقد اختلفت الأقوال في سبب تسمية عرفة بهذا الاسم، ولكن من أبرز ما ورد في الروايات – وهو ما يميل إليه الفكر الإمامي – ما يُروى من أن جبرائيل (عليه السلام) قال لإبراهيم (عليه السلام) في هذا الموضع: "اعترف بذنبك واعرف مناسكك". وهذا المعنى عميق الدلالة؛ فـ"الاعتراف بالذنب" هو أساس التوبة والعودة إلى الفطرة السليمة، و"معرفة المناسك" تتجاوز مجرد الإلمام بالطقوس إلى إدراك المقاصد والأبعاد الروحية للحج. هذا المعنى يضفي على عرفة بُعداً تعليمياً وتربوياً، يجعلها محطة لـ"معرفة" الله ومعرفة النفس وعيوبها. (انظر: من لا يحضره الفقيه، ج2، ص196).
ثانياً: "اليوم المشهود": تجلي العظمة الإلهية
يُطلق على يوم عرفة في النصوص الشريفة وصف "اليوم المشهود". هذه التسمية لم تأتِ من فراغ، بل هي مستقاة من النص القرآني في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ (هود: 103). ففي هذه الآية، يُشار إلى يوم القيامة بأنه "يوم مجموع له الناس" و"يوم مشهود". وقد أكدت روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن هذا الوصف ينطبق أيضاً على يوم عرفة، فكما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: "اليوم المشهود يوم عرفة" (تهذيب الأحكام، ج5، ص476).
إن هذا التوصيف لا يقصد المماثلة الكاملة بين يوم عرفة ويوم القيامة، بل يشير إلى عظمة هذا اليوم وخصوصيته. ففي يوم عرفة تجتمع الحشود البشرية في بقعة واحدة، وتُشْهد ملائكة الرحمن هذا المشهد العظيم، وتُشْهد فيه الملائكة والمخلوقات رحمة الله الواسعة التي تتنزل على عباده. إنه يوم تتجلى فيه عظمة الله تعالى وقدرته، وتصغر فيه كل المخلوقات أمام جبروت الخالق.
ومن أبرز تجليات هذه العظمة، ما ورد عن النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "مارئي الشيطان في يوم هو أصغر ولا احقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة" (مستدرك الوسائل، ج10، ص43).
هذه الرواية تحمل دلالات عميقة جداً. فغَيْظ الشيطان وحقارته في هذا اليوم ليس فقط بسبب كثرة المغفرة التي ينالها العباد، بل لأنه يرى عودة الإنسان إلى فطرته السليمة، وإظهاره للذل والفقر أمام ربه، مما يهدم كل ما بناه من وساوس وغرور في نفوس البشر. إنها معركة إرادة وروح تُنتصر فيها إرادة الخير على إغراءات الشر. إنها فرصة للتحرر من قيود الشيطان واستعادة السيطرة على النفس.
ثالثاً: المغفرة الإلهية: تجلياتها في عرفات وكربلاء
يوم عرفة هو بحق يوم غسل القلوب والنفوس من جميع مظاهر المعصية، وهو يوم الانطلاقة الجديدة والعودة إلى الفطرة السليمة. إنها فرصة فريدة للتوبة الصادقة والندم على ما ارتكبه العبد على مدار السنة. نقف في هذا اليوم بعد الظهر بساعة، نُظهر الفقر والعجز والاحتياج المطلق أمام الله تعالى، نكرر التذلل بكلمات مثل "أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري". من فاته وغفل عن المحاسبات اليومية، فيوم عرفة هو خير فرصة لإظهار التوبة والندامة والمسكنة في حضرة الله تعالى.
وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في فضل هذا اليوم: "ما يقف على تلك الجبال بر ولا فاجر إلا استجاب الله له فأما البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه".
هذه الرواية تؤكد على عمومية رحمة الله تعالى في هذا اليوم. ففضل عرفة يشمل الجميع، الصالح والطالح، لأنها تجلي لرحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء. وهذا يعزز الأمل في نفوس العاصين ويدفعهم للتوبة، كما يطمئن نفوس الصالحين بأن دعاءهم مستجاب في هذا اليوم المبارك.
لكن الجدير بالذكر، من منظور الفقه والوجدان الشيعي، هو الربط العميق بين عرفات ومدينة كربلاء المقدسة، خاصة في هذا اليوم العظيم. فالله تعالى ينظر إلى حشود المؤمنين المتواجدين في عرفات، ولكن الروايات الشريفة قد أكدت أن النظرة الإلهية في المغفرة تقع أولاً على زوار قبر الإمام الحسين (عليه السلام). وهذا ليس أمراً غريباً أو مبالغاً فيه لمن يدرك مكانة الإمام الحسين (عليه السلام) ودوره في حفظ الإسلام.
إن هذه النظرة الخاصة لزوار الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة ليست انتقاصاً من فضل الوقوف بعرفة، بل هي إبراز لمكانة سيد الشهداء وتضحياته التي كانت سبباً في بقاء شعيرة الحج والعبادات. فكما ورد في المأثورات الشريفة: "لولا الدماء الزاكية التي أريقت في ظهيرة يوم عاشوراء هي التي أبقت شعيرة الوقوف على عرفات، ولولا الإمام الحسين (عليه السلام) لما بقي هناك حجة ولا عمرة ولا دين". هذا القول عميق الدلالة، فهو يربط بقاء الدين والمناسك بتضحية الإمام الحسين (عليه السلام)، مما يجعل زيارته في عرفة جزءاً لا يتجزأ من تجديد العهد مع الله المتعال ومع رسالة الإسلام الأصيلة. ولذا، فإن المغفرة تنزل على الحاضر في كربلاء لمن عجز عن الوقوف في عرفات، وهي رحمة إلهية واسعة تعوض من حُرم نعمة الوقوف في عرفات بسبب ظروف قاهرة.
رابعاً: عرفة: يوم عالمي لتزكية النفس والأخلاق
في عالمنا المعاصر، نشهد اهتماماً متزايداً بتحديد أيام عالمية لمناسبات مختلفة تتعلق بالصحة الجسدية (مثل مكافحة الأمراض الخطيرة كالإيدز والسرطان)، والقضايا الاجتماعية (مثل اليوم العالمي للمرأة، وعيد الأم، ومكافحة الجريمة والمخدرات). هذه المبادرات جيدة ومهمة لعملية الرقي والنهوض بواقع المجتمعات، ووضع حلول للمشكلات القائمة.
وما أجمل أن يخصص الإنسان يوماً عالمياً لنفسه، لا لمكافحة الأمراض الجسدية التي قد تكون سبباً من الله تعالى، بل لمعالجة أمراضه الروحية والعقدية والفكرية والأخلاقية! فالمنظمات الدولية، على الرغم من جهودها في مكافحة الأمراض الخطيرة، قد فشلت في علاجها والسيطرة عليها تماماً، ووصلت أعداد الضحايا إلى الملايين. وهذا يدفعنا للتساؤل عن العلاج الجذري.
لقد توصل الكثيرون، سواء في الفكر الديني أو حتى الفكر الإنساني المعاصر، إلى أن العلاج الحقيقي يكمن في تربية الإنسان على القيم والمبادئ، وتقوية الرادع الديني، وتعزيز الإيمان بالله تبارك وتعالى. هذا ما أكد عليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: "أيها الناس دينكم دينكم فتمسكوا به لا يزيلنكم احد عنه". نهج البلاغة، خطبة الوسيلة.
هذه الوصية الذهبية لأمير المؤمنين (عليه السلام) تضع يدها على جوهر المشكلة والحل. فالدين، ليس مجرد طقوس، بل هو منظومة قيمية وفكرية وأخلاقية تحصّن الفرد والمجتمع من الانحراف، وتوفر له "وقوداً روحياً" لا ينضب.
ان الأدعية والزيارات والبكاء – سواء من خشية الله تعالى أو على مصائب آل محمد (عليهم السلام) – هي من أهم محطات الوقود الروحية في يوم عرفة. ففي هذا اليوم، يجتمع التضرع والتذلل لله تعالى مع استلهام العبر من تضحيات أهل البيت (عليهم السلام)، خاصة الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يُزار في هذا اليوم. هذا المزيج من الذكر، والدعاء، والبكاء الخاشع، يمثل قوة روحية هائلة تغسل القلوب وتطهر النفوس وتجدد العزيمة.
خاتمة
يوم عرفة هو يوم إلهي بامتياز، تتجه فيه القلوب والأفئدة إلى بارئها. إنه موسم التوسل والتذلل وإظهار المسكنة في حضرة الله تعالى، سواء في عرفات للحجاج، أو في كربلاء لزوار سيد الشهداء. إنها فرصة سنوية متجددة لتطهير الذنوب، وتجديد العهد مع الله، وتعزيز القيم الدينية والأخلاقية. ولعل في ربط هذا اليوم العظيم بالدعوة إلى معالجة "أمراض الروح" على غرار الأيام العالمية، دعوة إلى إعادة الاعتبار للبُعد الروحي في بناء الإنسان وتكامل المجتمع، وبناءً على التحليل المعمق ليوم عرفة ودلالاته الروحية والاجتماعية، والربط الوجداني والاعتقادي بين عرفات وكربلاء، يمكن استنباط جملة من النتائج والتوصيات:
أولاً: النتائج
1. تُظهر الدراسة أن يوم عرفة ليس مجرد ركن من أركان الحج، بل هو تجلٍّ خالص لمعاني التوحيد المطلق، وإقرار العبد بفقره وعجزه المطلق أمام غنى الله تعالى وقوته، مما يعزز التوكل والاستعانة به وحده.
2. تتضح أهمية التسمية "عرفة" في دلالاتها التربوية، حيث تُشير إلى ضرورة "الاعتراف بالذنب" كركيزة للتوبة، و"معرفة المناسك" بما يتجاوز الطقوس إلى إدراك عميق لمقاصدها الروحية والأخلاقية.
3. يُبرز وصف "اليوم المشهود" عظمة يوم عرفة كمحطة حاسمة يضعف فيها تأثير الشيطان ويتقلص، مما يمنح المؤمن فرصة ذهبية للتحرر من وساوسه والانطلاق نحو التزكية.
4. تؤكد الروايات أن المغفرة في يوم عرفة تتسع للبر والفاجر، مما يعكس سعة رحمة الله تعالى وفتح أبواب التوبة على مصراعيها للجميع.
5. تكشف الدراسة عن ترابط روحي عميق ومحوري بين وقفة عرفة وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، حيث تُعد كربلاء محطة موازية للمغفرة وتجديد العهد، وأن دماء عاشوراء كانت سبباً في بقاء شعيرة عرفة والدين نفسه. وتُشير الروايات إلى نظرة إلهية خاصة لزوار الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم.
6. يُظهر التحليل أن يوم عرفة يمثل فرصة فريدة لمعالجة "الأمراض" الروحية، العقدية، الفكرية، والأخلاقية، بما يتفوق على الجهود الدولية في معالجة الأمراض الجسدية التي كثيراً ما تفتقر للبعد الروحي.
7. تؤكد الأدعية والزيارات والبكاء، سواء من خشية الله تعالى أو على مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، على دورها المحوري كمحطات وقود روحية تغذي النفس وتجدد العزيمة.
ثانياً: التوصيات
1. يجب على المؤسسات الدينية والأكاديمية العمل على نشر الوعي بالدلالات الروحية والأخلاقية العميقة ليوم عرفة، لا الاقتصار على الجانب الفقهي الشكلي للمناسك.
2. ينبغي التركيز في الخطاب الديني والتربوي على أن يوم عرفة هو يوم لـ"معرفة" الله ونعمه و"الاعتراف" بالذنوب والتقصير، كخطوة أولى نحو التوبة الصادقة.
3. يجب تسليط الضوء على أن يوم عرفة يمثل فرصة حقيقية للمؤمن لتقوية إرادته والانتصار على وساوس الشيطان و"الرّها" الروحية.
4. من الضروري تعزيز فهم المسلمين للترابط الروحي بين عرفات وكربلاء، وإبراز دور زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا اليوم كمحطة مكملة للمغفرة وتجديد العهد، خاصة لمن تعذّر عليه الحج.
5. يُوصى بدعوة المؤسسات الدينية والفكرية لتبني فكرة اعتبار يوم عرفة "يوماً عالمياً" للتفكير في الأمراض الروحية، العقدية، والأخلاقية، والعمل على معالجتها من منظور إيماني.
6. تشجيع المؤمنين على استثمار يوم عرفة في الإكثار من الأدعية المأثورة، والزيارات، والتضرع، والبكاء الخاشع كسبيل فعال للتطهير الروحي وتجديد العلاقة مع الله تعالى.
7. يُوصى بإجراء دراسات أعمق تتناول الآثار النفسية والاجتماعية طويلة المدى للالتزام بهذه الشعائر، وكيف يمكن أن تساهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً وروحانية.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على رسوله الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat