التعصب من منظور إسلامي
السيد زين العابدين الغريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد زين العابدين الغريفي

يعد التعصب من الأوصاف المذمومة في المجتمعات العقلائية عامة ؛ لما يترتب عليه من مفاسد وأضرار اجتماعية واقتصادية وسياسية خطيرة قد تؤدي إلى هدر الطاقات وهدم البنيان وازهاق الأنفس وخراب النظام العام، ولذا جعلها علماء الأخلاق من رذائل النفس وعيوبها .
والعصبية والتعصب في الأصل هي اندفاع الفرد نحو نصرة عصبته اي عشيرته أو قومه أو جماعته التي ينتمي إليها في الأحوال كافة سواء كانوا مظلومين أم ظالمين. ليعتقد إن الصواب دائماً وأبداً فيما يراه في كل الأمور والخطأ ما يراه غيره .
ويتضمن عادة شدة وغلظة وخشونة في التعامل اللفظي والجسدي بما يؤدي إلى إحداث اضرار خطيرة على الصعيد الفردي أو الاجتماعي.
بيد إن التعصب له أنواع ومصاديق كثيرة من حيث متعلقها ، فتارة يكون للقبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها ، وأخرى يكون للقومية التي يتكلم بلغتها ، أو للبلد الذي يستوطن فيه ، أو لفكرة يعتقد بصحتها أو عقيدة يؤمن بها ونحو ذلك ، فكل من يدافع عن فكرة بشدة وغلظة من دون مراعاة لجانب العدل والإنصاف يدخل ضمن دائرة العصبية المرفوضة .
ولهذا أسباب ودواعٍ كثيرة قد ترجع إلى جهل مركب يجعل منه معتقداً بقطعية ما يتبناه من أفكار ورؤى أو مرض نفسي سببه الاعجاب الزائد بالذات أو التقديس الأعمى والصنمية المطلقة لشخص بحيث لا يرى غيره فيكون كالأعمى لا يرى منه إلا الحق والصواب أو الحب المفرط الذي يعمي العقل عن رؤية غير محبوبه ، وغير ذلك .
وقد ورد ذم التعصب في الكتاب العزيز والتحذير منه كما في قوله تعالى : [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ] حيث ذم الله تعالى الجماعات التي حملها الكبر والغرور والانفة على عدم الانصياع للحق مع علمهم به ، وكان سبب طرد ابليس من الرحمة الإلهية ولعنه هو تعصبه وحميته التي منعته من السجود لآدم (عليه السلام) بقوله : [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] ، ولذا عد ابليس (لعنه الله) أول من سلك سبيل التعصب ، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) :[ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَنَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَأَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً] ، ويستفاد من ذلك إن التعصب من موجبات استحقاق اللعن من الله تعالى .
وهو من أبرز مظاهر المنافقين في عصر الرسالة حيث قال الله تعالى في وصفهم : [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ] ، فإن المنافق مع تقويم سلوكه وارشاده إلى الصواب يبقى متمسكاً بموقفه ولا يقبل أي توجيه أو نصيحة عزة منه بالإثم .
وأما في السنة الشريفة فقد ورد مستفيضاً استقباح عن هذا الوصف والنهي عنه ، منها قول النبي (صلى الله عليه وآله) : (من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه) ، وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضاً : (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) ، إذ التعصب يخرج المكلف عن الإيمان ويدخله بالشرك من حيث يدري أو لا ، بلحاظ وقوعه في طاعة الهوى وتقديمها على طاعة الله تعالى ليكون مشمولاً بقوله تعالى : [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] .
وتجدر الإشارة إلى كون حب الوطن والانتماء الى القومية أو البلد أو الجماعة ليست من التعصب ما دام لم يختلط بظلم الآخرين وجر الأذى عليهم ؛ لكون الحب أمراً فطرياً جبلياً خارجاً عن الإرادة فلا يؤاخذ عليه، بل لا يبعد أن يكون محبوباً في نفسه ما لم يتعارض مع العقيدة الصحيحة ، ولذا ورد عن الزهري انه سئل الإمام السجاد (عليه السلام) عن العصبية ، فقال: (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) .
ويستثنى مما تقدم التعصب للحق من الاعتقادات الدينية أو الدفاع عن المستضعفين أو تعديل الاعوجاج في السلوك الإجتماعي أو غير ذلك مما هو داخل في دائرة الصواب بنحو القطع واليقين أو الاطمئنان فإنه مطلوب بشرط العدل والانصاف في الأقوال والأفعال ، بل قد يكون واجباً في بعض الأحيان .
على إن التعصب للدين الإسلامي يُلزِم المكلف باستعمال اللين والعفو والصفح ونشر المحبة والسلام والوئام والتعامل بالحوار والحسنى مع الآخر ما دام لم يكن محارباً؛ لشيوع أوامرها في الكتاب والسنة ، فلابد أن يتصف المؤمن حقاً بالسماحة ودماثة الأخلاق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat