صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

في ظلال طوفان الأقصى "68" في ذكرى النكبة شواهد البقاء ودلائل الزوال
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لم تعد ذكرى النكبة مناسبةً لاجترار الأحزان والبكاء على الأطلال، ويوماً لفتح الصناديق واستخراج المفاتيح واستعراض الصور، ومناسبةً نستذكر فيها مع من بقي حياً من كبار المسنين الفلسطينيين، الذين شهدوا النكبة وعاصروا المحنة، وكانوا شهوداً على الهجرة واللجوء، وكانت لهم بيوتٌ عامرة، وبساتين كبيرة، وممتلكات كثيرة، أيام النكبة وحكايا الهجرة وقصص اللجوء، وجرائم اليهود ومجازر العصابات الصهيونية، وتواطؤ انجلترا "دولة الانتداب"، وضعف الدول العربية وهزيمة جيوشها.

كما لم تعد مناسبة نجهز فيها الكاميرات ووسائل الإعلام، ونعقد في ظلالها الجلسات والندوات، ونجلس خلالها مع آبائنا وأجدادنا، ونتحلق حولهم لنسمع منهم ونسجل لهم بعض الأهازيج القديمة والأشعار الجميلة التي حفظوها صغاراً وبقيت في الذاكرة كباراً، وحافظوا عليها ولم ينسوها، وهي بلا شك جميلة ومعبرة، وتحمل رسائل وفيها حوافز، وتطرب أسماعنا وتسعد نفوسنا، وتربطنا بماضٍ أصيل ووطنٍ عزيزٍ، وتعزز انتماءنا إلى الوطن، وتشجي قلوبنا وتوقد فيها شعلة الأمل، التي ما برحت متقدة ولم تخمد، مشتعلةً ولم تخبُ.

ولن تعود ذكرى النكبة أبداً يوماً تلبس فيه المرأة الفلسطينية أثوابها الوطنية المطرزة، التي تحمل بصمات الوطن، وتحتفظ بما يميز مدنه وبلداته، وتزهو به في بيتها أو تختال به في حفلاتها، ثم تطويه بعنايةٍ فائقةٍ، وتعيد حفظه في خزائنها كالذهب المعتق والمجوهرات الثمينة، وتوصي بناتها به وتخصهم ببعضه وكأنه إرثٌ مقدس، وجزءٌ من الوطن عزيزٌ، يجب الحفاظ عليه والتمسك به، والاعتزاز به والإصرار عليه.

ولا يوماً يلبس فيه الرجال "الكوفية والقمباز والحطة والعقال" والأثواب الفلسطينية المميزة، وكأنه يومٌ للتراث الفلسطيني، يُذَكِّرون به أنفسهم وأولادهم، ويُعَرِّفون به غيرهم وأجيالهم، ليبقى تراثهم حياً يقاوم، وصامداً ثابتاً يدل عليهم ويعرف بهم، وعنيداً لا يقبل الهزيمة، ولا يعترف بالسرقة، ولا يسكت عن الادعاء والتزوير ومحاولات النسب الباطل والتزييف المقصود.

اليوم ونحن نحيي الذكرى السادسة والسبعين للنكبة، نصر على تغيير الشكل والهيئة، واستبدال الفعاليات والطقوس، ومغادرة مربعات الانكسار والهزيمة، والتخلص من مفردات الذل والمهانة، والتخلي عن مظاهر العجز ودلائل الضعف، والإصرار على على النصر والعودة، والتطهير والتحرير.

فقد بتنا منذ أكثر من عقدين نشعر بأننا الأقوى والأقدر، وأننا الأقرب إلى تحقيق أهدافنا والأجدر، وأننا لم نعد ضعافاً نستصغر، ولا قلةً نستضعف، ولا عاجزين نخضع، أو خائفين نقبل، أو وحدنا نجزع، أو مختلفين نتشتت، أو متنازعين نتبدد، بل نحن اليوم قوةٌ لا يستهان بها، وقدرةٌ لا يستخف بها، ونستطيع أن نتحدى العدو ونصده، وأن نقاومه ونرده، وأن نوجعه ونؤلمه، وننال منه ونخضعه.

 

اليوم نحيي ذكرى النكبة ونحن في الميدان نقاتل، وعلى الأرض نقاوم، وفي بلادنا ثابتين وعلى مواقفنا صامدين، وفي كل مكانٍ في العالم نظهر بجرأةٍ وشجاعةٍ، وصدقٍ ويقينٍ، تمسكنا بحقوقنا، وإصرارنا على عودتنا، ورفضنا أي جنسيةٍ أو وطنٍ بديلٍ، فنحن لا نستبدل الوطن بهويةٍ، ولا الحاكورة بفيلا، أو الحظيرة بمزرعة، أو التاريخ بروايةٍ، والماضي المجيد بمستقبلٍ مجهولٍ، وقد أصبحنا قوة حقيقية يخشى منها العدو ويخاف، ونثق بها ونراكم عليها، ونراهن بها ولا نستغني عنها، ونستطيع بها أن نحقق ما أردنا، وأن نستعيد ولو بعد حينٍ ما خسرنا.

 

يوم النكبة التي يسميه العدو يوم "الاستقلال"، الذي أعلن فيه إنشاء كيانه وتشكيل هويته، وادعى فيه أنه وجد ليبقى وتأسس ليدوم، وعاد لماضٍ قديمٍ وتاريخٍ مجيدٍ، لم يعد اليوم الذي يظهر فيه قوته وينتشي بعظمته، ويتباهى بتفوقه، ويحتفل بتفرده، ويدعي فيه البقاء والوجود، ويتيه فيه بالجيش الذي لا يهزم، وبالتحالف القوي الذي لا يتخلى عنه، ولا يفرط فيه، ويدافع عنه وبالسلاح يحميه.

بل أصبت الذكرى تؤرقه وتوقظ مخاوفه، وتذكره بأنه غريبٌ وافدٌ، ومحتلٌ غاصب، ومستوطنٌ سارق، وبغيٌ قاتلٌ، وأنه منبوذٌ غير مرغوب، ومعزولٌ غير محبوب، وأنه اليوم أو غداً زائلٌ مفككٌ، وعن الأرض المقدسة راحلٌ مطرودٌ، وكل ما حوله ينبئه بالغد القادم والوعد الآتي.

وباتت تشعره أن أصحاب الحق ما زالوا في أرضهم، أحياءً فوقها أو شهداءً في بطنها، يخلدون ترابها، ويحفظون هويتها، ويصبغون لونها، فيها سيعيشون وفي ترابها سيدفنون، ومنها سيبعثون، وهذا الأمل فيهم حيٌ لم يمت، وباقٍ لم يزل، ويقينٌ لم يتزعزع، وقد باتوا يؤمنون بأنهم أصبحوا إلى وطنهم أقرب وإلى تحقيق أهدافهم أقدر.

بينما العدو الذي أطفأ هذا العام مشاعله الإثني عشر، وهرب منه مئات الآلاف واستعد للفرار أمثالهم، بات يدرك أنه في خطر، وأن كيانه إلى زوال، وأن أمنه سراب، وسلامه مستحيل، واستقراره غير ممكن، وتطبيعه وهم، وانسجامه مع المحيط دخنٌ، وأن روايته دجلٌ وخرافةٌ، وحكاياه عن الوطن والبيت أساطيرٌ مفتراة وقصصٌ خياليةٌ مختلقة.

بعد اليوم يجب أن يخاف العدو منا ويفزع، ويحسب حسابنا ويجزع، ويدرك قوتنا ويخاف، ويذوق بأسنا ويتألم، ويتجرع من سلاحنا ويتعلم، فنحن لن نستكين على الظلم، ولن نقبل بالحيف، ولن نقيم على الهوان، ولن يطول بنا المقام لاجئين، أو يتأخر بنا الزمان محرومين، أو يسكتنا العدو مرعوبين، ويفرض شروطه علينا مستسلمين، أو تيئسنا الأنظمة العربية معزولين، أو تتخلى عنا وحيدين، بل سنبقى ثائرين وله مقاومين، وعلى كل الجبهات مقاتلين، ولن نرضى باحتلال أرضنا واغتصاب حقوقنا، ولن نفرط في مقدساتنا أو نتخلى عن ثوابتنا التي ورثناها، وأمانة الأجداد التي حملناها.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/05/18



كتابة تعليق لموضوع : في ظلال طوفان الأقصى "68" في ذكرى النكبة شواهد البقاء ودلائل الزوال
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net