في رحاب وصية الامام علي (ع) لابنه الامام الحسن (ع)
عبد الناصر السهلاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد الناصر السهلاني

بداية لابد من التذكير بان وصية الامام امير المؤمنين لابنه الحسن (عليهما السلام) جرت على طريقة (اياك اعني واسمعي يا جارة) وذلك لمكان عصمة الامام الحسن (عليه السلام) المفروغ منها، فالمقصود بالوصية هو الناس، كما هي طريقة القرآن الكريم في بعض خطاباته مع النبي (صلى الله عليه وآله) فقد ورد ذلك عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام)، فعن الامام الصادق (عليه السلام) قال : "نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جاره"(١)
وعن الامام الرضا (عليه السلام) بعدما سأله المأمون العباسي: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، فقال الرضا(عليه السلام): "هذا مما نزل (بإياك أعني واسمعي يا جارة) خاطب الله بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وقوله عز وجل: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)"(٢)
🔹قال امير المؤمنين في ضمن وصيته لابنه الحسن (عليهما السلام):
"وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ، وَالاِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالاَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الاَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لاَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُك أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّم وَتَعَلُّم، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ.
وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة.
فَإذا أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ أنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ، وَالاِمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ."(٣)
هذا النص الشريف الرائع يعجز اللسان عن وصف دقة تعابيره في بيان الموضوع وهو حقاً من السهل الممتنع كما يقولون، فلنتجول فيه ما وسعنا ذلك:
ابتدأ الامام (عليه السلام) بوصيته بالتقوى فانها مفتاح البصيرة ورضا الله دوماً، ثم دخل الامام (عليه السلام) في موضوعه، مخاطباً ابنه الحسن (عليه السلام) فأوصى بضرورة الاقتصار على ما فرضه الله (وهنا الفرض ليس في مقابل المستحب مثلا وكأن الامام يقول اعمل بالواجب فقط واترك المستحب، لا فالمقصود بالفرض هنا اي ماجعله الله تعالى من الدين، يعني عندما تؤدي الواجب لاتوجب على نفسك شيئاً لم يوجبه الله تعالى، واذا اردت ان تؤدي المستحب، فلا تبتدع شيئا لم يذكره الله تعالى وتقول عنه مستحب، فلا تفرض شيئا من عندك وتنسبه الى الدين، وهكذا) وعطف عليه الاخذ من منابع الدين الحقيقية وهم النبي واهل البيت (صلوات الله عليهم)، ثم ينبه الامام (عليه السلام) الى نكتة مهمة بان (الاِقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ) قد يأتي بالتسليم المباشر وحده بعد الاطمئنان بمصدره الموثوق الذي دل عليه العقل مثل الله تعالى والنبي والامام، وقد يتوصل اليه الانسان بالتفكر الذي لا ينافي التسليم، بل يأتي بعد التسليم، كحالة صحية ندب اليها القرآن الكريم : "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" فالآية صريحة بان هؤلاء المسلِّمين لله الذين يذكرونه بكل اوضاعهم يتفكرون كذلك فينتهون الى نتيجة تسليمهم بحقانية ما هم عليه .
وهنا الامام يشير الى ان اولياء الله لم يتركوا التفكر ولكن نتيجة تفكيرهم هي (رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا)، وهنا الامام (عليه السلام) يشير الى ان الانسان اذا لم يُرد ان يُسلِّم بدواً بما وصله من الاثار البينة التي عليها الاولون من اهل الحق الا بعد التفكير، فهنا الامام لا يمنع عن اصل التفكير والتعقل، فهو أمر ممدوح، ولكن بشرط وقائي وهو (فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّم وَتَعَلُّم، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ) فالتفكر لوحده قد يوقع في الشبهات فلابد ان يكون مقروناً بتفهم وتعلم، ثم يشير الامام الى ان طالب الحق قبل نظره لابد ان يستعين بالله لان المفروض ان هدفه هو الله تعالى، ويعيد الامام (عليه السلام) تاكيده مرة اخرى على خطر الشبهات وذلك بالاحتراس من علوق الشوائب بعملية التفكر والتفهم فانه يكون مدخلاً للشبهات، وباباً للضلالات، فاذا انتهيت الى نتيجة بمقدمات موضوعية صحيحة تشعر معها بالصفاء وخشوع القلب فارجع الى ما عرفته من دين الله فان نتيجتك ستجتمع معه، والا اذا لم تجد في نفسك الرضا من رحلتك في التفكر تلك ولم يجتمع لك ما تطمئن له فاعلم انك في متاهة ونكوص عن طريق الحق عبر عنه الامام بـ (تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ) ثم يختم الامام (عليه السلام) بتقيمه للحالة بقوله (وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ، وَالاِمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ) اذن يتضح لكل عاقل بان الاسلم بعد بيان الامام هذا ان نتخذ الطريق المنجي الاسهل لرضا الله تعالى وهو عدم تجاوز المُسَلَّمات من العقائد الحقة المشيدة الاركان واتباع محدثات اساسها الاهواء والجهل بطرق الاستدلال، فليس بعاقل من اذا علم بان مائة طبيب مختص يقولون برأي ويسمع بطبيب اقل منهم مهارة وخبرة يقول برأي مخالف فيتبعه مباشرة بسبب كلامه الجميل مثلا بما يوافق امانيه ومزاجه!!! والا فالمريض مايدريه بقوة الرأي المخالف من عدمه، ولكن بحساب الاحتمالات الفطري في ذهن الانسان فانه لن يسلم نفسه وهو مريض لشاذ عن رأي كبار المختصين !!! فانه سيلام من قبل العقلاء على فعله المتهور هذا.
هذا كله في امر دنيوي فكيف اذا كان امراً يخص عقيدة ودين قد تكفل الله بحفظه !! اترى ان الله تعالى رفع يده عن الحفظ طوال عصر الغيبة مثلا ولمدة الف عام ليخرج لنا الان شخص يقول ساعيدكم الى الحق ليبدأ حفظ الله لدينه من ساعة نبوغ هذا العبقري !!!
فبعد اكثر من الف ومائة سنة من العقيدة بان الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) قد انقطعت سفارته الخاصة ونحن في عصر النيابة العامة للفقهاء حتى ظهور الامام، يخرج لنا الآن نكرة ليقول ان الشيعة بعلمائهم كافة وبكل ادلتهم لم يفهموا المقصود وانهم كانوا على ضلالة، واني سفير خاص ارسلني اليكم الامام المهدي!!!!
🔹وهناك نص مهم من حفيد امير المؤمنين (عليه السلام) الامام الصادق جعفر بن محمد (سلام الله عليهما) يجري نفس المجرى في ضمن رسالة قيمة وجليلة للشيعة نقلت بعدة طرق مسندة، ذكرها الشيخ الكليني (اعلى الله مقامه) جاء فيها:
"أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم، عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بعده وسنتهم، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم و ولايتهم، وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله): المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وإن قل أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء، ألا إن اتباع الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار"(٤)
وضوح ما بعده وضوح جرى على لسان الامام الصادق (عليه السلام) وناقلا بضمنه وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الشأن.
فذكر (عليه السلام) في بداية المقطع فقرة هي اشبه بالبشارة بل هي البشارة بقوله: (أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم) فأمر هذه الفرقة الحقة وما هي عليه من عقائد ثابتة تحت حفظ ورعاية الله تعالى، وهذا طبعاً لا يمنع من التعرض للفتن والاختبار لابناء هذه الفرقة، ولكن في النتيجة ان من ينحرف ويضل هم القلة ولن يؤثر ذلك على الوضع العام في اعتقادات هذه الطائفة، لذا حذر الامام (عليه السلام) واوصى كما حذر واوصى جده امير المؤمنين (عليه السلام)، وذكر وصية جده النبي (صلى الله عليه وآله) في (المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن) محذراً في النهاية من (إن اتباع الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال)
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.
عبدالناصر السهلاني.
______________________________
(١) (الكافي: ج2 ص631).
(٢) (عيون اخبار الرضا: 2 ص 180).
(٣) (نهج البلاغة: كتاب 31).
(٤) (الكافي: ج8، ص8).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat