التسليم في الدين وبيانات اﻹمام الصادق (عليه السلام)
عبد الناصر السهلاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد الناصر السهلاني

بسم الله الرحمن الرحيم: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”(١)
بسند معتبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) قال:
“لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ وحَجُّوا الْبَيْتَ وصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ قَالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ اللَّهُ أَوْ صَنَعَهُ النَّبِيُّ(ص): أَلَّا صَنَعَ خِلَافَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة: (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ.”(٢)
هكذا يؤكد لنا الإمام الصادق (عليه السلام) مسألة التسليم لله تعالى وحججه، بعد أن ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، وذكرها كذلك آباؤه الطاهرون (عليهم السلام).
التسليم بكل ما جاء من عند الله عبر النبي والأوصياء من عترته (صلوات الله تعالى عليهم) أجمعين.
والنص أعلاه يبين بوضوح خطورة هذا الموضوع، حيث يؤكد الإمام (عليه السلام) بصراحة إن الأفعال العبادية مهما التزم بها المكلف ما لم يرافقها التسليم التام لأي شيء آخر ثبت انه من الدين، وإنه من الله تعالى ونبيه، فإن تلك العبادات لن تنفع بشيء، وينزل صاحبها منزلة المشرك.
إذ كيف يتصور عابد لله مقر بحقيقة العبودية ثم يعترض على مولاه ولا يسلم له، فكيف يكون مسلماً؟!
والملفت للنظر إن الآية الشريفة تعتبر حتى الحرج النفسي الداخلي مضراً بإيمان الشخص وأنه غير لائق، فضلا عن إبراز ذلك الحرج إلى الخارج وبيانه بالقول أو الفعل.
وفي بيان آخر حديٌّ للصادق (عليه السلام) في وصيته المهمة لشيعته يؤكد فيه إن مقوم الإسلام هو التسليم، حيث قال:
“واعْلَمُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، والتَّسْلِيمَ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَمَنْ سَلَّمَ فَقَدْ أَسْلَمَ، ومَنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَلَا إِسْلَامَ لَهُ “(٣)
فلا واسطة في البين إما أن تُسلِّم فانت مسلم فتكون لعبادتك قيمة، وأما ألا تُسلِّم فانت لست بمسلم فلا عبرة بأفعالك.
فبطاقة الدخول إلى حرم الإسلام هو التسليم وبعد ذلك يكون ميزان المحاسبة على لوازم التسليم من عبادات وغيرها داخل هذا الحرم.
وما ذكره الصادق (عليه السلام)، كان تأكيدا لما ذكره آباؤه (عليهم السلام) من قبل، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
“لَأنْسُبَنَّ الْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي. الْإِسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْإِقْرَارُ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَدَاءُ، وَالْأَدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ.”(٤)
ولا يخفى إن معنى التسليم لله وحججه هو الرضا عنهم وعن كل ما جاؤوا به، وغالباً ما يعطف الرضا على التسليم في الروايات.
ففي نص ثالث للإمام الصادق (عليه السلام) وببيان جلي ضمن وصيته لشيعته يقول:
“واعْلَمُوا أَنَّ أَحَداً مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ يُصِبْ رِضَا اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ وطَاعَةِ وُلَاةِ أَمْرِهِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ(ص)، ومَعْصِيَتُهُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، ولَمْ يُنْكِرْ لَهُمْ فَضْلًا عَظُمَ أَوْ صَغُرَ، واعْلَمُوا أَنَّ الْمُنْكِرِينَ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ وأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَالَ لِلْمُنَافِقِينَ وقَوْلُهُ الْحَقُ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً”(٥)
إذن فمحمد وآله (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) هم ميزان الرضا والتسليم لله، فلا يمر رضا الله تعالى إلا بواسطة رضاهم، ولا إصابة لرضا الله تعالى (ذلك الهدف الأكبر) إلا بإصابة رضا النبي والمعصومين من آله. وإلا فالخسران هو المآل.
وهذا التسليم قد طبقه بعض أصحاب اﻹمام (عليه السلام) عملياً، وقد أقرهم الإمام على ذلك ومدحهم، بل كان مع بعضهم هو المبادر (عليه السلام) لبراز هذه الحالة كما في قصة صاحب التنور:
فعن مأمون الرقي قال: كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني فسلّم عليه ثم جلس فقال له:
يا ابن رسول الله لكم الرأفة و الرحمة وأنتم أهل بيت الإمام، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه و أنت تجد مِن شيعتك مئة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟
فقال له: “اجلس يا خراساني رعى الله حقك”،
ثم قال: “يا حنيفة اسجري التنّور”، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيضّ علوه.
ثم قال عليه السلام: “يا خراساني قم فاجلس في التنّور”.
فقال الخراساني: يا ابن رسول الله لا تعذبني بالنّار، أقلني أقالك الله.
قال(ع): “قد أقلتك”.
فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق(ع): “القِ النّعل من يدك واجلس في التنور”.
فال: فألقى النعل من سبابته، وأقبل الإمام يحدّث الخراساني حديث خراسان حتّى كأنّه شاهد لها، ثمّ قال(ع): “قم يا خراساني وانظر ما في التنّور”.
قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام (ع): “كم تجد بخراسان مثل هذا”؟ فقلت: والله ولا واحد. فقال(ع): “لا والله ولا واحد، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت”(٦)
وبعد هذا لا قيمة لما ينعق به بعض الحمقى سيئي الأدب ممن يريد أن يحاسب المعصومين على أفعالهم، وأقوالهم، ومواقفهم، مع زعمه اﻹيمان بعصمتهم وانهم حجج الله على خلقه!
فأي تناقض هذا، وأي تخبط بعد هذا التخبط.
وعلى كل حال فالآثار كثيرة عنهم (عليهم السلام) في معنى التسليم، والانقياد لهم، لو ذكرناها بأجمعها لطال بنا المقام، وإنما أخذنا منها باقة من كلام صاحب الذكرى الإمام الصادق (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)
فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا ورحمة الله وبركاته
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله أبدا.
________________________
(١) (النساء: 65)
(٢) (الكافي: ج2، ص398)
(٣) (الكافي: ج8، ص11)
(٤) (نهج البلاغة: الحكمة 125، او 118 بحسب اختلاف النسخ)
(٥) (الكافي: ج8، ص11)
(٦) (مناقب آل ابي طالب: ج4، ص237).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat