صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

عَليٌّ.. وَقَبرُ فاطمة..
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
لَا شَفِيعَ لِلْمَرْأَةِ أَنْجَحُ عِنْدَ رَبِّهَا مِنْ رِضَا زَوْجِهَا.
 
للزَّوجِ حَقٌّ عظيمٌ على الزَّوجة، بلَغَ بحسب باقرِ العلوم حدَّاً: صار رِضاهُ عنها سبيلاً لرضا الله تعالى، في الدُّنيا والآخرة.
 
لَم تؤمَر المرأة بالسُّجود لزوجها، لأنَّ أحداً لم يؤمر بالسجود لغير الله تعالى، ولكن.. ظَلَّ رضا الزّوج طريقاً يُمَهِّدُ أمام المرأة الدُّخول إلى جنان الرحمان.
 
يقول الباقر عليه السلام:
وَلمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ (ع) قَامَ عَلَيْهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع) وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ !
 
عليٌّ زوجُها راضٍ عنها، وعليٌّ إمامها راضٍ عنها.
 
أمّا رضاهُ عنها كزوجها، فهي التي قالت له: وَلَا خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي‏، فكيف لا يرضى أميرُ المؤمنين عن الطاهرة الكاملة المعصومة سيدة نساء أهل الجنة.
 
وأمّا رضاهُ عنها كإمامها، فهي التي حالت بينه وبين القوم لمّا أرادوا أخذَه، فتعرَّضَت للضَّرب دِفاعاً عن إمامها: حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (ع) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ، فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ (كتاب سليم ج‏2 ص586).
 
قال عليه السلام هذه الكلمة (اللَّهُمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ)، ثمَّ أتبَعها بكلماتٍ تُقَطِّعُ القلوب:
 
1. اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ أُوحِشَتْ فَآنِسْهَا.
2. اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ هُجِرَتْ فَصِلْهَا.
3. اللَّهُمَّ إِنَّهَا قَدْ ظُلِمَتْ فَاحْكُمْ لَهَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ (الأمالي للطوسي ص156).
 
وَحشَةٌ وهُجرانٌ وظُلمٌ، هو ما لاقته الزَّهراء من الأمّة المنقلبة على أعقابها، وعَليٌّ إلى جانبها، ولكن.. ما أمكَنَهُ أن يَرُدَّ القوم عَنها.
 
هيَ مُتَألِّمَةٌ لفراق أبيها، والقومُ يمنعونها حتى من البكاء عليه !
هي مظلومةٌ مقهورةٌ، وعليٌّ لا يَسَعُه الدَّفع عنها، وإرجاع حقِّها إليها.
 
عَليٌّ ذو القلب المكلوم، يوكِلُ أمرَها إلى الله تعالى، فهو الذي سيحكم لها، وهكذا يفعلُ كلُّ مُحِبٍّ لها عندما يزورها بقوله:
اللَّهُمَّ إِنَّها خَرَجَتْ مِنْ دُنْيَاهَا مَظْلُومَةً مَغْشُومَةً، قَدْ مُلِئَتْ دَاءً وَحَسْرَةً وَكَمَداً وَغُصَّةً، تَشْكُو إِلَيْكَ وَإِلَى أَبِيهَا مَا فُعِلَ بِهَا، اللَّهُمَّ انْتَقِمْ لَهَا وَخُذْ لَهَا بِحَقِّهَا (المزار الكبير ص79).
 
الزَّهراء مغشومةٌ: أي مقهورةٌ مظلومةٌ مغلوبة.
الزَّهراء مملوءةٌ داءً وهمَّاً وحُزناً لا يمكن إمضاؤه.. الزَّهراء مغمومةٌ قد مُلئت غُصَّةً مما جرى عليها من القوم..
فلا حول ولا قوّة إلا بالله.. والمشتكى إلى الله..
 
أُوحِشَت الزَّهراء وظُلِمَت وهي فوق التُّراب، فأراد عليٌ عليه السلام أن تُراعى تحتَ التُّراب !
 
لئن أبى أكثرُ الناس إلا كفوراً بولاية عليٍّ ومودَّة الزّهراء عليهما السلام، وقد قَسَت قلوبهم فصارت كالحجارة أو أشدُّ قسوَة، فإنَّ الجمادات تعرِفُ قدرَ الأعاظم، لقد جَلَسَ عليٌّ على شفير قبرها عليها السلام وقال:
 
يَا أَرْضُ اسْتَوْدَعْتُكِ وَدِيعَتِي ! هَذِهِ بِنْتُ رَسُولِ الله.
 
وكان الأعجبُ من كلامه أن سمعَ نداءً من الأرض:
 
يَا عَلِيُّ أَنَا أَرْفَقُ بِهَا مِنْكَ، فَارْجِعْ وَلَا تَهْتَمَّ!
 
أيُّ معنى عَجيبٍ هذا.. النّاسُ يظلمونها ويقهرونها وهي حيَّةٌ.. ثمَّ تصيرُ عليها السلام وديعةَ عَليٍّ عند الأرض.. فتكون الأرضُ أرفقَ بها!
 
ههنا اطمأنَّ عليه السلام على الزَّهراء:
فَرَجَعَ، وَانْسَدَّ القَبْرُ، وَاسْتَوَى بِالأَرْضِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ كَانَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ (بحار الأنوار ج‏43 ص215).
 
ولكن..
كيف يرجعُ عَليٌّ ويَدَعُ الزَّهراء وحدَها ؟!
كيف لا يهتمُّ بعدما أوسدَها التُّراب ؟!
 
إنَّ من هوان الدّنيا على الله تعالى أن لا يتمكَّنَ عليٌّ من المقام عند قبر فاطمة عليها السلام، وهو القائل:
 
وَلَوْ لَا غَلَبَةُ المُسْتَوْلِينَ لَجَعَلْتُ المُقَامَ وَاللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، وَلَأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ (الكافي ج‏1 ص459).
 
عَليٌّ يُريدُ أن يلبث عند قبر فاطمة، ويتّخذه مقراً ومستقراً ومُعتَكفاً !
يُريدُ أن يحبسَ نفسه للبكاء والعويل على فاطمة عليها السلام.
 
لكنَّ هناك ما يمنعه.. إنَّهُ لا يريدُ أن يعرف الأجلاف المتسلِّطون بقوّة السلاح موضع قبر فاطمة عليها السلام، فصارَ حُزنُه مضاعَفاً.. حُزنٌ على ما جرى عليها، وآخرُ على فَقدِها، وثالثٌ لعدم اللُّبث عند لَحدها.
 
لقد أوصته أن لا يُعرفَ قبرُها، فكيف له أن يلبث قُربَها وهي التي تأنس به حيَّةً وميِّتة.. وقد أوصته أن يجلس عند رأسها بعد أن يسوي التراب عليها لتأنس به !
 
وأنّى له أن يلازمَ قبرَها ويَبكيها جهاراً نهاراً وقد عُفِّيَ موضعُه.. والتبس الأمر على القوم لمّا أعدَّ أربعين قبراً جُدداً.
 
ذاك حيثُ: ضَجَّ النَّاسُ وَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَقَالُوا: لَمْ يُخَلِّفْ نَبِيُّكُمْ فِيكُمْ إِلَّا بِنْتاً وَاحِدَةً، تَمُوتُ وَتُدْفَنُ وَلَمْ تَحْضُرُوا وَفَاتَهَا وَلَا دَفْنَهَا وَلَا الصَّلَاةَ عَلَيْهَا! بَلْ وَلَمْ تَعْرِفُوا قَبْرَهَا!
 
فَقَالَ وُلَاةُ الأَمْرِ مِنْهُمْ: هَاتُوا مِنْ نِسَاءِ المُسْلِمِينَ مَنْ يَنْبُشُ هَذِهِ القُبُورَ حَتَّى نَجِدَهَا فَنُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَنَزُورَ قَبْرَهَا.
ما رضيَت الزَّهراء عنهم في حياتها حتى ترضى عنهم في مماتها.
 
ما احتملت أن يدخلا عليها حيَّةً حتى أعرضت بوجهها عنهما، ثم خَصَمَتهُمَا وتوفيَّت غاضبةً عليهما، أفَتَرضَى ويرضى عليٌّ أن يقفا عند قبرِها ؟!
أيرضى عليٌّ أن ينبشا قبرَها وَيُخرِجَاها ويطمِسَا معالمَ الظُّلامة ؟!
 
لن ترضى الزَّهراء بأقل من ظلامةٍ باقية على مرَّ الدُّهور، ولن يرضى عليٌّ بأقلَّ من أن ينفذ وصيَّةَ فاطمة.. ويمنعهم من نبش قبرها..
 
فَخَرَجَ مُغْضَباً قَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَدَرَّتْ أَوْدَاجُهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاؤُهُ الأَصْفَرُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ فِي كُلِّ كَرِيهَةٍ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى سَيْفِهِ ذِي الفَقَارِ، حَتَّى وَرَدَ البَقِيعَ، فَسَارَ إِلَى النَّاسِ مَنْ أَنْذَرَهُمْ، وَقَالَ:
هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي‏ طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ كَمَا تَرَوْنَهُ، يُقْسِمُ بِالله لَئِنْ حُوِّلَ مِنْ هَذِهِ القُبُورِ حَجَرٌ لَيَضَعَنَّ السَّيْفَ فِي رِقَابِ الآمِرِينَ.
 
الناس تعرفُ بأسَ حيدَر، فليست صولاته وجولاته بالشيء الذي يُنسى، وها هو اليوم يعودُ بالتاريخ إلى أيام الشدائد، ويَظهَرُ ذلك عليه جَلياً، فيسبقُهُ خَبَرُه إلى البقيع إنذاراً مُدَويَّاً.
 
لكنَّ القومَ ظنوا أنَّ ما قيَّدَ علياً عن المطالبة بحقِّه فيما سَبَق سيكون سيَّالاً:
فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَبَا الحَسَنِ، وَالله لَنَنْبِشَنَّ قَبْرَهَا وَلَنُصَلِّيَنَّ عَلَيْهَا.
 
فَضَرَبَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بِيَدِهِ إِلَى جَوَامِعِ ثَوْبِهِ فَهَزَّهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، وَقَالَ لَهُ:
 
يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، أَمَّا حَقِّي فَقَدْ تَرَكْتُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَدَّ النَّاسُ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَمَّا قَبْرُ فَاطِمَةَ فَوَ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، لَئِنْ رُمْتَ وَأَصْحَابُكَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ لَأَسْقِيَنَّ الأَرْضَ مِنْ دِمَائِكُمْ، فَإِنْ شِئْتَ فَاعْرِضْ يَا عُمَرُ (دلائل الإمامة ص137).
 
رأى القومُ بأسَ حيدر المعهود، وعلموا أنَّ الموردَ ليس من الموارد التي يمكن لعليٍّ أن يسكت عنها، فانكفؤوا ورجعوا خاسئين، قد امتلؤوا رُعباً..
 
قال عليه السلام لمن اشتهر بالفرار والإنكسار:
لَئِنْ سَلَلْتُ سَيْفِي لَا غَمَدْتُهُ دُونَ إِزْهَاقِ نَفْسِكَ، فَرُمْ ذَلِكَ! فَانْكَسَرَ عُمَرُ وَسَكَتَ (كتاب سليم ج‏2 ص871).
 
هكذا أنفذَ عليٌّ عليه السلام وصيَّة حبيبة المصطفى صلى الله عليه وآله، لتظلَّ الظلامةُ حيَّةً إلى ظهور المنتقم.. الآخذ بالثار..
 
اللهم عجِّل فرجه.. وسهِّل مخرجه.. واجعلنا من أعوانه.. المنتقمين معه لفاطمة عليها السلام..
 
ولا حول ولا قوة إلا بالله


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/12/23



كتابة تعليق لموضوع : عَليٌّ.. وَقَبرُ فاطمة..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net