{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم : 1]
إنَّ الكتابةَ في الشأن الإقليمي عامةً والعراقي خاصة تحتاج الى درايةٍ بالتاريخ العام لدول المنطقة وشعوبها، ومجرياتِ الأَحداثِ الكبرى التي عصفتْ بالمنطقة على اختلاف أَشكالها وأَنواعها ومسبباتها، فضلًا عن معرفةٍ ببواطن أمور السياسة وأَحزابها ورجالها ومخرجاتها. وخيرُ التجاربِ الكتابية تَكمُنُ بمَنْ عاشَ الحدثَ وتنفَّسَ خفاياهُ، فلملَمَ خيوطَهُ ليَحوكَ قراءاتِهِ مَقالاتٍ تكشفُ عن مَستورٍ، وتشيرُ الى مخبوءٍ بوعي ومعرفةٍ.
والقارئ لمقالات الأستاذ (نجاح بيعي) يستشفُّ تلك القراءةَ الواعيةَ والتحليلَ المُبهرَ حينَ يضعُ بقلمه النقاطَ على الحروفِ صراحةً دونَ ريبٍ أو مجاملةٍ، أو حين يبحرُ في خِضَمِّ الأَحداثِ يقلِّبُها كيف يشاء، ويربطُ بعضَها ببعضٍ ليصلَ الى ما علقَ في ذهنه من هدفٍ مقصودٍ هو استنتاج معرفي قبل كلِّ شيءٍ، وليس مجرد كلماتٍ يسطّرها فوق أَوراقٍ ويمضي، هي أَفكارُهُ التي صقلتها سنواتُ المحنة وجمرُ أَيامها المُلتهب، بل هي مكابداتٌ وصراعاتٌ مع اتجاهاتٍ شتَّى، ولولا روحُ الايمان والثقةُ بالنفس وحبُّ الوطن ما كان ذلك ليكون مختلفًا في تحليلاته، بعيدَ الغَورِ في تقصي أَفكار الآخرين، وقد مَحَّصَها بما لها وعليها وتوصَّلَ الى مُخرجاتها بعدما تَواصَلَ مع أَفكارها قراءةً وتنقيبًا.
وحين يحللُ يأخذُكَ الى أَحداثٍ ربما تناسيَتَها أَو جرى حكمُ النسيانِ عليها فيضع أَمامَكَ مجملَ الأَحداثِ بشريط استرجاعٍ ربما أَهملته الذاكرةُ فأَركنتهُ في خاناتِ القنوط واليأس الذي دبَّ في ذاكرةِ العراقيين فكانَ واجهةً من واجهاتِ الأَحزاب والجمعياتِ السياسيَّة التي لعبتْ دورَ الرقيب (المأجور) في انشغالها بتلبية حاجاتِ أَسيادها، وربما مؤامراتهم على العراق، وتَركت الشعبَ يصارع وحيدًا على مختلف الأَصعدة. فخلقتْ من العراق ساحةً مفتوحةً للصراعات الإقليمية لتتمكنَ الأَضدادُ من حَلِّ مشكلاتها على أَرضه وهي تَنهَبُ خيراته وتقتلُ أَبناءَهُ، وتزعزعُ استقرارَهُ ساحه يتجاذب اطرافها إمَّعاتُ السياسة بعيدًا عن أَيِّ احساسٍ وطني، كذلك بتحايلها على النظام الديمقراطي الجديد محاولةً منها لوقف عجلةِ التغيير.
وقد استطاع الأستاذ (نجاح بيعي) الغوصَ في ثنايا ما صدرَ عن المرجعيَّةِ العليا في النجف الأَشرف من خطبٍ وبياناتٍ وتصريحاتٍ مباشرةٍ أَو غير مباشرةٍ ، واستخراج لآلئها البراقة، فتمكَّنَ بخبرته كشفَ معدنها النَّقي وأصالةَ منبتها الطَّيِّبِ، فكان لا يتركُ شاردةً أَو واردةً إلَّا ووقفَ يُنقِّبُ ويحللُ ويستجلي ما وراء النُّصوص من مَرامٍ وغاياتٍ، وما تحمله تلك اللآلئ من سماتٍ مترعةٍ بالإيمانِ والعمل الخالص لوجه الله تعالى، متسلحةً ببريقٍ سماويٍّ أخَّاذٍ.
وأَمام كلِّ محاولاتِ الفتنة والغدر يقفُ الأَسد الهصورُ يصدُّ رياحَ الشرِّ الوافدة من اتجاهاتٍ مختلفٍ بقوةٍ وارادةٍ وشكيمةٍ لا تأخذهُ في الله لومةُ لائمٍ، فكان في المرصادِ سدًّا منيعًا تتحطمُ على أَسوارهِ كلُّ مؤامراتِ الشرِّ والعدوان مهما كانت نوايا وغايات الآخرينَ دنيئةً وخبيثةً.
فكان بحقٍّ صوتَ الرسالة المحمديَّة الخالدة، دَوَّى صداها ذلك الامتدادُ الروحي نصحًا وارشادًا، وبيانَ حقائقٍ ودعواتٍ صادقةً ومواقفَ صامدة من أَجل تجنّبِ الوقوع في الضَّلالِ والغيِّ أَو الحدِّ من الاستمرار فيه بلا وعي. فكان الإمامُ السيستاني (دام ظله الوارف) صمَّامَ أَمانِ الأمةِ، وبيرقَها الخفاق أَبدًا.
هكذا لمستُ في قلم أَخي وصديقي العزيز الأستاذ نجاح بيعي سلاسةَ اللفظ ورقَّةَ الأسلوب. وما الاطنابُ الذي اتَّسمَتْ به بعضُ مقالاته إلَّا اسلوبهُ الخاص المُميَّز المؤدي إلى التذكير والتأكيد وزيادة المعنى لفائدةٍ يتطلَّبُها موقفٌ ما.
لذلك كان لأسلوبه الماتع في الاسترسال محلِّلًا ومفكِّكًا لما يطرح في الشأن العراقي خاصةً جماليةٌ في الكتابة مصدرها الشعورُ بالثقةِ، وزيادة في الرضا عمَّا يقدمه من حججٍ دامغةٍ تجعلك أَمام قلمٍ سبرَ أغوارَ أَفكارِ الآخرينَ فأَبانَ عنها ماغمضَ فيها عن القارئ لها مفصحًا بقلمِهِ السَّيالِ، ومُدركًا بعقلِهِ ما يحمله من فكرٍ ولائي صادقٍ لسيدِ العراق الامام السيستاني (دام ظله الوارف)، فهو المخلِّصُ والمُنقذُ للأرض والعِرضِ، وقد هتفتْ له الجماهيرُ على اختلاف انتماءاتها وشرائعها ومذاهبها وأَشكالها وأَلوانها، وما زال العظماءُ يعظِّمونَهُ، والكبار يجلونَهُ في مشارقِ الأَرض ومغاربها.
ذاك هو سيد العراق ، وهذا واحدٌ من مريديه، يطلقُ حرفَهُ مقاتلًا في صفوف جيشه الروحي الذي يتنامى يومًا بعدَ يوم.
فطوبى للحرفِ الصَّادق ، المعبِّرِ عن آلام وآمال الناس ,الغيورِ على (وطن) الأنبياء والأولياء والصالحين .
وأُبارك له منجزَهُ البِكرَ هذا ,الذي سيكون وثيقةً مهمةً للتاريخ دوَّنتْ بعضَ صفحاتِ مامرَّ به العراقُ وشعبُهُ الصابرُ من محنٍ ومآسٍ، ولولا حكمةُ ونَباهةُ الإمام المرجع لكانا في غياهبٍ ودياجير لا يعلم مداها إلَّا الله .
والحمد لله ربِّ العالمين
الدكتور سعد الحداد
الحلة 11/ أَيار /2013م
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat