كم هي مدهشة تلك الأَلوان البراقة والصور الملونة والعناوين التي لا أَفقه معانيها إلَّا كونها مرتبة بنظام جميل، ومغرية للناظر، فمازلت أُطيلُ التحديقَ مُتفرَّسًا في العناوين، مُتَهجِّيًا لكلماتها.
وكثيرًا ما كانت تتغير أَماكنُ العرضِ والعناوين لتُستبدلَ بأخرى جديدة، لم تكن واجهة زجاجية واحدة، بل واجهاتٌ زجاجية كبيرة متعددة على جانبي الشارع الضاجِّ بالحيويَّة، المختلف بالوجوه، المنتعش بالمغريات والمنعش للعقل والروح والنفس.
كلُّ شيء هنا يبعث بهجته في نفس الصّبي وروحه وعقله، وسني عمره تهرول مسرعة ، فيدرك جمال الأَشياء بالتتابع والتسارع ، والتعلّق بالمكان وموجوداته، فتستحيل أَحيانًا المغادرة أَو الابتعاد عنه، وقد أَخذ مأخذهُ من السِّحر في قلب الصّبي، كل يوم جديد يهطل من العاصمة أَو المدن البعيدة التي اقترنت بذاكرتنا الناشئة ( الطفولية ) دمشق، بيروت، القاهرة والكويت وغيرها... فتلك صحفُها ومجلاتُها وكتبُها، حديثةَ الإصدار جدًّا جدًّا ، تُعلَّق على الواجهات إعلانًا لوصول الجديد من مطبوعاتها التي بات ترقّبنا لها يزداد يومًا بعد آخر، كما دقات القلب تتسارع فرحًا بالقادم المنتظر ، وكانت ( يومياتنا ) من النقود (فلاسين)، حتى كبرت معنا (دراهم ودنانير) بقيمتها الأَكبر المساعدة على الاقتناء بحرية إلَّا أَن أَصحاب المكتبات كانوا رؤوفينَ رحيمينَ مع (الصَّبي ـــ الشاب) الذي لازمهم لسنوات طويلة يتفحّص في واجهات مكتباتهم الشهية ، فتجاوبوا معه في اقتناء الكتب وغيرها من المطبوعات على نظام الأسبوعية ذلك التجاوب الرائع انتج اندفاعًا للشراء فكنت أَصغر مشترك في الصحف والمجلات لدى المكتبتين بأَوقات مختلفة، لتنوع مصادر المطبوع أَحيانًا ، وأَغلب السنوات كان اشتراكي في الجريدة اليومية (الجمهورية) وقبلها بمجلات (الأَطفال).
وكان التحوّل الكبير في انتقال محل والدي من داخل السوق الى شارع المكتبات بمثابة فتح كبير لي .. حيث القرب من العالم الخرافي الماتع ، فالمكتبتان الأَشهر في الحلة على بعد أَربعة أَمتار من المحل .. (مكتبة الفرات) لصاحبها الحاج مهدي السعيد (والد الأَديب الاستاذ صلاح السعيد) التي أسست في منتصف عشرينيات القرن الماضي، وتقابلها على الجهة الأخرى (مكتبة المعارف) لصاحبها الحاج عبد الحسين علوش، افتتحت بعدها بعقدين تقريبا . وعلى مقربة منهما افتتحت منتصف السبعينيات مكتبة حكومية هي (مكتبة الدار الوطنية) وكانت منفذًا مهما لبيع الكتب المدعومة من قبل الدولة، بل تلجأ الدار الى التخفيضات في أسعار المطبوعات كافة في مناسبات وطنية أو سياسية آنذاك. مما شجَّع عددًا كبيرًا من الشباب وغيرهم الى انشاء مكتبات شخصية حافلة بإصدارات متنوعة من المعارف، ولا أنسى ما للمرحوم الشاعر شكر الصالحي من تشجيع الفتى لاقتناء الكتب بل كان يحجز لي نسخة من المطبوعات القليلة النسخ، وكنت أَعرضُ عليه بواكير نظمي.
لقد أَضاف لي انتقال الوالد الى محله الجديد متعة الرقابة البريئة لكلِّ ما يصل من مطبوع ومعرفته أَولًا بأَول، فكنت أَصل الى بغيتي دونما عناء، بل أتتبع خطوات الكثير من المثقفين والأدباء ومحبي القراءة، وأَتفرس في وجوه بعضهم. وكثيرًا ما يعوقني معرفة اسمائهم وهم يرتادون المكتبات أو المقاهي المنتشرة بكثرة في المنطقة. وربما أَسترق بعض أَحاديثهم الجانبية مع أَصحاب المكتبات أَو النقاشات السريعة على قارعة الطريق.
وتعرفت على كثير منهم وكنت صديقًا لأغلبهم بمرور الأَيام والأَعوام. ثمَّ زميلا لبعضهم في اتحاد الأدباء والكتاب أَو الجمعيات الثقافية والنقابات المختلفة.
****
كان صديقي (سعد ناجي السياب) قد أَرشدني الى الاشتراك في مجلة (مجلتي) في مطلع السبعينيات، لتصل إلينا منتظمة بمظروف جميل مقابل أَجر سنوي قدره (ربع دينار)، وكم كانت الفرحة ترتسم في عيوننا ونحن نستلم المجلة من الجابي دون عناء وأَحيانًا قبل وصولها الى مكتبات المدينة .
ويستقل الشاب بعمله، ويتخذ (عربة) تعدلُ محلًا، وسط سوق البزازين في بطنها المجوف مخزنًا للمطبوعات التي تتراكم يومًا بعد آخر، كانت نواة لمكتبة شخصية أعتز بها وهي تنمو كل حين بالنافع والجديد، وكان المخزن مصدرًا للإعارة فأكثر محصوله يذهب لشراء المطبوعات.
وكان لوالدي (رحمه الله) فضلٌ كبير في غرس روح القراءة عندي، كان يقرأ ويكتب ولكن ليس له من المطبوعات نصيب إلَّا القرآن الكريم، وكان (رحمه الله) كثيرًا ما يصطحبني معه وأَنا صبي للتبضّع من (شورجة بغداد) ، ومسارنا المعتاد من علاوي الحلة حيث المتحف الوطني العراقي والمقاهي الكبيرة وروادها من متذوقي المقام العراقي والشواكة وجسر الشهداء ثمَّ الانعطاف يمينًا الى قبر الشيخ الكليني والمدرسة المستنصرية وصولًا الى الشورجة في شارع الرشيد ...
وفي هذا المسار وغيره هناك ما يُبهر الصبي حيث الآثار الشاخصة ببهائها والعمارة الفاتنة بجمال زخرفها وبنائها ...
وما إن ينتهي الوالد من اتمام عملية التسوق وشحن البضاعة الى الحلة بواسطة ( شركة الحمل) يأخذني بجولة استرخاء ماتعة حيث المتحف البغدادي أَو المتحف الحربي (الذي كان ضمن بناية وزارة الدفاع القديمة في الميدان) والصلاة في أَحد مساجد السّفراء الأَربعة.
ومن جميل المفاجأة أَنَّ الصبيَّ يقف أَمام كنوز يطير لها لبُّه ، ونحن ندخل السراي لنأكل الكبَّة ونحتسي الشاي في مقهى الشابندر، فهنا شارع للكتب التي لا حصر لمكتباته يتعلق الصبي بهذا المكان الذي ظلَّ يرتاده حتى قبوله في كلية التربية جامعة بغداد مطلع الثمانينيات، ففتح عينيه فأضحت الأَماكنُ أَصدقاءَ روحانيينَ لا يأبى مفارقتهم....
وكان وما زال يميل الى الكتب المكدسة المفروشة على الأَرض ففيها من نوادر المطبوع وبأسعار زهيدة، فما عليك إلَّا أَن تبذلَ جهدًا في البحث بين ركام تلك الكتب فتخرج بنصيب وافر منها.
****
وأَذكرُ أَنَّ المرحوم عبد الحسين علوش صاحب (مكتبة المعارف) وولده المرحوم فلاح كانا يدفعان إليَّ ببعض المطبوعات التي كانت حصتها قليلة جدًا، وكثيرًا ما يرغبانني بشراء دورات مهمة من الاصدارات التي يُمنع عرضها على واجهات المكتبات آنذاك تارة أَو يمنع التعامل بها وترويجها. حتى َأصبحت لدي مجموعة لا بأس بها من الكتب الحمراء!!!!! التي كانت بعد سنوات وقودًا لتنور أمِّي!!!
وتمضي السنون مسرعة فيعجب الوالد من الكتب التي اتخذت (دولاب جدتي المتروك) مكانًا لحفظها متسائلًا: أَهي لك يا بني؟ متى قرأتها !!.
نعم.... ولكن لم أَقرأها جميعها فكثير منها كان برغبة الامتلاك. وما أَجمله بعد حين، إذْ وَفّرَّ المالَ والجهدَ في البحث عن عناوين هي بحوزة الفتى هو بأَمسِّ الحاجة لها. ورحم الله من أَشار عليه أَن يقتني هذا الكتاب وهذا العنوان بدلًا من هدر الدراهم على أمور تافهة.
****
ومن المواقف الضَّارة النافعة للفتى عندما كان يتصفَّح كتابًا يسرد وقائع تاريخية معاصرة وأَسماء عديدة لممارسات قمعية – إجرامية – موثقة بصور الآلات الجارحة والفتاكة من أسلحة وغيرها وأدوات مصنعة محلية أعدَّت للتعذيب.. كان كتاب (المنحرفون) يوثق جرائم البعثيين (الحرس القومي) إبان العهد العارفي ، وقد حصل عليه الفتى صدفة في مخزن مكتبة المعارف ،فتلمس فيه شيئًا غير مألوف وراح يقلب صفحاته بنهم، فما إن لمحه المرحوم محمد الملا علي ( كان بزازًا وهو والد الفنان المسرحي علي التاجر) حتى صاح بي : يا سعد ... تعال .. اعطني الكتاب، واذا بلمح البصر يخفيه ويبدأ ناصحًا إنَّه كتابٌ ممنوع ويؤدي الى التهلكة..... ممَّا حدا بالفتى الى البحث عن الكتب الممنوعة واقتنائها بشتى الطرق.


التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!