أدبر و دبرا و مدبرا في القرآن الكريم (ح 3)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

تكملة للحلقتين السابقتين قال الله تبارك وتعالى عن أدبر ومشتقاتها "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ" ﴿المائدة 21﴾، و "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ﴿الأنعام 45﴾ فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ: أهلكوا من أولهم إلى آخرهم، فاستؤصل هؤلاء القوم وأُهلكوا إذ كفروا بالله وكذَّبوا رسله، فلم يبق منهم أحد، والشكر والثناء لله تعالى خالق كل شيء ومالكه على نصرة أوليائه وهلاك أعدائه، و "فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ" ﴿الأعراف 72﴾ قطعنا دابر: أهلكنا آخر و المراد الجميع، فوقع عذاب الله بإرسال الريح الشديدة عليهم، فأنجى الله هودًا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة منه تعالى، وأهلك الكفار من قومه جميعا ودمَّرهم عن آخرهم، وما كانوا مؤمنين لجمعهم بين التكذيب بآيات الله وترك العمل الصالح، و "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" ﴿الأنفال 7﴾ دابر اسم، دابر الكافرين: آخرهم و المراد جميعهم، واذكروا أيها المجادلون وَعْدَ الله لكم بالظَّفْر بإحدى الطائفتين: العير وما تحمله مِن أرزاق، أو النفير، وهو قتال الأعداء والانتصار عليهم، وأنتم تحبون الظَّفْر بالعير دون القتال، ويريد الله أن يحق الإسلام، ويُعْليه بأمره إياكم بقتال الكفار، ويستأصل الكافرين بالهلاك، و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ" ﴿الأنفال 15﴾ فَلا تُوَلُّوهُم الأدبارَ: لا تفروا و لا تنهزموا، يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إذا قابلتم الذين كفروا في القتال متقاربين منكم فلا تُوَلُّوهم ظهوركم، فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم وناصركم عليهم، و "وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" ﴿الأنفال 16﴾ دبره: دبر اسم، الهاء ضمير، ومن يُوَلِّهم منكم ظهره وقت الزحف إلا منعطفًا لمكيدة الكفار أو منحازًا إلى جماعة المسلمين حاضري الحرب حيث كانوا، فقد استحق الغضب من الله، ومقامه جهنم، وبئس المصير والمنقلب، و "وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" ﴿الأنفال 50﴾ وَأَدْبَارَهُمْ: الواو حرف عطف، أدبار اسم، هم ضمير، ولو تعاين أيها الرسول حال قبض الملائكة أرواح الكفار وانتزاعها، وهم يضربون وجوههم في حال إقبالهم، ويضربون ظهورهم في حال فرارهم، ويقولون لهم: ذوقوا العذاب المحرق، لرأيت أمرًا عظيمًا، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كلِّ كافر.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً" (الفتح 22) هذه الآيات تتحدّث أيضا عن أبعاد أخر لما جرى في الحديبيّة و تشير إلى لطيفتين مهمّتين في هذا الشأن الأولى: هي أنّه لا تتصوّروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم و بين مشركي مكّة في الحديبيّة لانتصر المشركون و الكفرة "وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً" (الفتح 22). و ليس هذا منحصرا بكم بل: "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" (الفتح 23). فهذا هو قانون إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة و قلوب طاهرة و لم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم اللّه على عدوّهم، و ربّما حدث في هذا الشأن إبطاء أو تعجيل لامتحان المؤمنين أو لأهداف أخرى، و لكنّ النصر النهائي على كل حال هو حليف المؤمنين. ألم يكونوا في بدر أو الأحزاب قلة و أعداؤهم كثرة، فكيف انهزم الجمع و ولّوا الدبر في المعركتين؟ قوله تعالى "وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ" (الطور 49). و قد ورد في حديث عن الإمام علي عليه السّلام أنّه قال: المراد ب "أَدْبارَ السُّجُودِ" (ق 40) ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب (ينبغي الالتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات و قد أشير إلى إثنين منهما هنا فحسب) و "إِدْبارَ النُّجُومِ" ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم و تفرّقها و قبل صلاة الصبح. كما ورد في رواية اخرى أنّ المراد من "أَدْبارَ السُّجُودِ" (ق 40) هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل. قوله: وَ مِنَ اللَّيْلِ فيشير إلى صلاتي المغرب و العشاء و قوله: وَ أَدْبارَ السُّجُودِ ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، و قال ابن عبّاس بهذا التّفسير- مع هذا القيد- و هو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض و لكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب و نافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفا. قوله: "وَ مِنَ اللَّيْلِ" (الطور 49) فيشير إلى صلاتي المغرب و العشاء و قوله: "وَ أَدْبارَ السُّجُودِ" (ق 40) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، و قال ابن عبّاس بهذا التّفسير مع هذا القيد و هو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض و لكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب و نافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفا. كما فسّر بعضهم قوله "قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ" بصلاة الصبح، "وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ" بصلاة العصر، "وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ" (الطور 49) بصلاتي المغرب و العشاء، فلم يذكروا شيئا عن صلاة الظهر هنا، و هذا دليل على ضعف هذا التّفسير. و نقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية: "وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ" (ق 39) قال عليه السّلام: (تقول حين تصبح و تمسي عشر مرّات لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كلّ شيء قدير). و لا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل و يمكن أن يجتمعا في الآية معا.
عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْناً شَدِيداً، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا الَّذِي يَحْزُنُكَ عَلَيْهِ؟ فَمَا هُوَ إِلاَّ ابْنَ جُرَيْحٍ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ،فَذَهَبَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَيْهِ، وَ مَعَهُ السَّيْفُ، وَ كَانَ جُرَيحٌ الْقِبْطِيُّ فِي حَائِطٍ، فَضَرَبَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَابَ الْبُسْتَانِ، فَأَقْبَلَ جُرَيْحٌ لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَرَفَ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ، فَأَدْبَرَ رَاجِعاً، وَ لَمْ يَفْتَحِ الْبَابَ،فَوَثَبَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى الْحَائِطِ،وَ نَزَلَ إِلَى الْبُسْتَانِ، وَ اتَّبَعَهُ، وَ وَلَّى جُرَيْحٌ مُدْبِراً.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat