صفحة الكاتب : يحيى غازي الاميري

رسول الله ص وآله بين غارين : غار العزلة وغار الهجرة
يحيى غازي الاميري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 غاران في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته وتشييد رسالته التي بُعث بها ، هما غار حراء وغار جبل ثور ..

وفي العادة يتم تسليط الأضواء على هذين الغارين من ناحيتهما التاريخية وكجزء من السيرة النبوية ، فالأول هو غار البعثة والثاني غار الهجرة وما يرتبط بهما من أحداث وتفاصيل قصصية .. أمّا الجانب التحليلي لهذين المكانين معاً وخصّهما دون غيرهما بالكلام مقارنةً أو وظيفةً ودوراً وما شاكلها فإن لم يكن معدوماً فهو بلا شك قليل ونادر جداً ..
وهذا ما سنقوم به في هذا المنشور والذي يليه وعلى مستوى الإشارة والإثارة دون البسط في العبارة .. لأن هذا ما يسمح به المقام وطبيعة الكلام على مواقع التواصل الاجتماعي .. ونقول :

غار (حراء) هو غار العزلة ، و (ثور) غار الهجرة ، والعزلة والهجرة أسلوبان بل سلاحان استخدمها الانبياء والمصلحون في بناء ونجاح مشاريعمها على النحو والتكليف الشخصي والعام .. ولكل من العزلة والهجرة في الأدبيات الإسلامية - والقرآنية خاصة - معنى ومفهوم عميق ، وترتبط بكل منهما بحوث كلامية وفقهية غير الاجتماعية وما شاكلها .

أما غار العزلة : بإختصار فإن العزلة تعني التنحية جانباً عن الشيء كالجماعة مثلاً ، بينما الهجرة تعطي معنى القطع والابتعاد ..
والعزلة منها ما هو سلبي- كالناتجة من أمراض نفسية او تلك التي لها نتائج سلبية - ومنها ما يكون نافعاً بل ضرورياً ، يقول عالم الرّياضيات بليز باسكال : { إن الأفكار المتميزة لا ينتجها الإنسان المفكر إلا في حال اعتزاله قليلًا } .

وهناك تقسيم آخر للعزلة يمكن ان نطرحه، وهو تقسيمها الى العزلة المعنوية والعزلة المادية ، أما الأولى فيعني أنك تكون مع الجماعة ولكنك ليس منهم ، أفكارك ومعتقداتك ومبادئك واستحساناتك تختلف عنهم ، بينما العزلة المادية هو الاعتزال الجسدي والمقاطعة وما شاكلها ولكن لا تصل الى حدّ الهجرة ..

وكلا العزلتين ( المادية والمعنوية ) مارسهما رسول الله صلى الله عليه وآله في غار حراء ، فكان يعتزل في غار حراء ويمارس فيه عبادته ( يتحنث كما في الخبر ) وتأمّلاته الخاصة ، وكان يقضي فيه شهراً كاملاً في السنة وهو شهر رمضان - كما ورد - وفي مقابل ذلك كان صلى الله عليه وآله جزءاً من المجتمع المكّي القرشي في تجارته وتواصله الاجتماعي العام ، وهاتان العزلتان كانتا وراء بناء شخصه وكمالاته العقلية والروحية حتى تكللت بالوحي والبعثة المباركة ..

ومما ذكره القرآن من أسلوب وطريقة العزلة التي استثمرها بعض الانبياء والاولياء ، هي عزلة أهل الكهف مع مجتمعهم ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ) الكهف ١٦ ، وكذلك اعتزال ابراهيم ؏ لقومه ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ) مريم ٤٨-٤٩. وكلا الاعتزالين كانت نتيجتهما عظيمة في تاريخ سيرة الانبياء والمصلحين ..

أما غار جبل ثور فهو يمثل بداية مرحلة الانفصال الجسدي والتباعد الحقيقي والكبير لرسول الله - ومن معه - عن جسد وأجواء المجتمع المكي ، هذه الخطوة وهذا الأسلوب هو المناسب لكمال شخصية الرسول بعد أن كان أسلوب العزلة مناسب لشخصه ، شخصية الرسول هي الجانب الرسالي والدعوي للنبي الذي يستوجب مساحة خارجية ومتطلبات موضوعية تختلف شكلاً ومضموناً عن متطلبات بناء الذات والمحتوى الداخلي للشخص والتي كانت العزلة الإجراء المناسب لها كما وضحنا في أعلاه ..

كان قرار الهجرة مستحكماً بعد أن اجتمعت الأسباب الموضوعية والمتمثلة بالخطر الشديد على حياة الرسول وحياة الرسالة خاصة بعد وفاة ابي طالب سلام الله عليه وزيادة أذى المشركين على المسلمين ومقاطعتهم لهم ، وكذلك تهيأة يثرب ( المدينة المنورة ) كبيئة مناسبة وجديدة للدعوة .. مع تحقق الأسباب الشرعية للهجرة والمتمثلة بالاذن الالهي بالهجرة ، وقد أختصرت آية ٣٠ من سورة الأنفال كلا السببين للهجرة ( الموضوعي والشرعي ) ، قال تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .

ولقد تعرّض القرآن الكريم لأسلوب الهجرة كإجراء وقائي وإجراء علاجي بنفس الوقت في أكثر من موضع وأكثر من طريقة :

+ تارة بطريقة الإدانة والترهيب لعدم استثمار أسلوب الهجرة : قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } النساء ٩٧

+ وتارة بأسلوب المدح والإطراء والثناء للذين اتخذوا هذا الإجراء في الحفاظ على إيمانهم وترسيخ دينهم ورسالتهم : قال تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال ٧٤

+ وثالثة بأسلوب المقارنة الصريحة بين الفئنين والتفضيل بينهما : قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } الأنفال ٧٢

وكما أثمرت العزلة ثمرتها ببعثة النبوّة ، كذلك أثمرت الهجرة بكمال وتمام الرسالة ، فأخذ الإسلام حجمه المناسب في مهجر الرسول وانطلق منه بالبعدين الزماني والمكاني ..

من هنا لا بد من النظر الى الغارين بأنهما مدرستان ، الأول هو مدرسة الصلاح والثاني هو مدرسة الإصلاح ، لم يكن حجمهما الصغير وفضاءهما الضيّق عائقاً وراء تحقيق أكبر رسالات السماء على الأرض بل كانا علةً منحصرة لذلك ..

الموضوع شيّق وعميق ويحتاج الى تفرعات كثيرة لإستيعابه وتحصيل فوائده ، إلا انه كما قلنا مجرد إثارة وإشارة له .. والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم على سيدنا محمد واله الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان الى قيام يوم الدين ..

#مبارك لكم ولادة سيد الكائنات وولده صادق العترة .. صلوات الله عليهم


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


يحيى غازي الاميري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/10/18



كتابة تعليق لموضوع : رسول الله ص وآله بين غارين : غار العزلة وغار الهجرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net