رحلة الاربعين بين الشوق والأنين
هدى الحسيني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
هدى الحسيني

ها هي زينب تعود من رحلةِ الأربعين، رحلة السبي، الدموع، الألم، العذاب، الفقد، الشوق،والأنين.
عادتْ بعد دربٍ مريرٍ من العذاب، والسبي؛ لتعلن بكلِ فخرٍ وإباء، انتصار عاشوراء الدم على السيف، وإنتصار المباديء على بيع الذمم، وإنتصار الكرامة والصمود على العطش، وإنتصار الكلمة على الأغلال والقيود.
عادت؛ لتروي لنا حكاية الفقد، وآه من هذهِ الكلمة، ما أوجعها، وما أمرّ الحنظل الذي تسقيه للقلوب، وما أقسى الشعور الذي تُمليه على النفس، وأي فِقْد أنه فِقْد أخيها الحسين (عليه السلام) الذي تركَ في قلبها فجوة، لن تردمها كل جبال العالم، لا بأس عليكِ يازينب ، هذا الدمع تطهير، ذلك الفقد خيرٌ لا يعلمَهُ إلا العليم الخبير.
وما أن وطأت أقدامُها أرضِ كربلاء؛ حتى استذكرت حوادث ذلك اليوم المرير، القصير بساعاته_الطويل بحزنه، ووجعه.
نظرت إلى ذلك المكان الذي سقط فيه البدر، وتناثرت حولهُ النجوم، وكأنها ترى جسد أخيها الحسين (عليه السلام) مرميٌ على رمضاءِ كربلاء، مقطع الاشلاء، مسلوب العمامة والرداء، ثم دارت عينيها نحو مجرى الماء، وكأنها ترى كفي اخيها العباس، ملقاة بجانب نهر الفرات، نادته انهض ياعباس، انه الماء لكن هل بعد كفيك ارتواء؟
عادت زينب؛ لتخبر أخيها الحسين إنها حافظت على الامانة، وأدتْ الرسالة، فمعركة عاشوراء لم تكن نصف نهار، بل كانت أكثر من ذلك، فبعد إنتهائها عسكرياً، وقفتْ عليها السلام كالطود الشامخ، وحملتْ راية إخيها الحسين؛ لتكمل المعركة اعلامياً، وتؤدي دورها بنفس الروح التي كان عليها ابطال عاشوراء، كيف لا وهي من تحمل في داخلها الأنوار الثلاثة، فمن نور النبي محمد (صلى الله عليه آاله وسلم) أخذتْ دينها، وعلمها، ومن نور ابيها علي المرتضى (عليه السلام) ورثتْ شجاعتها، ومن نور فاطمة تنبع حكمتها، وصبرها حتى أصبحتْ مثالاً للصبر والحكمة.
فلقد ساهمتْ سلام الله عليها، مساهمة فعالة في توضيح الحقائق، وتثبيتْ دعائم الثورة الحسينية لدى العامة، والخاصة ممن التبس عليهم الأمر، وتمكنتْ عبر صوتها، وشجاعتها،وبلاغتها من الرد على كل افتراءات الأمويين، وكشف النوايا الخبيثة، التي ينطوي عليها إعلامهم، الذي حاول تزييف الحقائق؛ لكن موقف السيدة زينب عليها السلام وصلابتها، وحكمتها حال دون ذلك.
كانت عليها السلام، على طول مسار ذلك الطريق الطويل، والشاق والمليء بالأوجاع، والآلام ورغم كل تلك الجراحات التي في داخلها، كلما تجمهر الناس "للفرجة" تُحدِثُ الناس عن ما جرى في عاشوراء من ظلم وجور بحقهم، فلم تشغلها المصيبة، والألم، والدموع عن اداء دورها الرسالي؛ حتى ادهشت الناس بفصاحتها، وبلاغتها، وهذا ماذكرهُ حذيم الراوي، حين وصف ردود افعال الناس، عندما كانت تمر قافلة السبايا، وتتحدث اليهم العقلية الهاشمية: "رأيتُ الناس حيارى، قد ردوا أيديهم إلى افواههم، فما وِجِدَ غير شيخ يبكي، ونساء تصيح، وشباب مذهول، واضطربت الأمور"
وهذا يعني إن السيدة زينب، استطاعت أن تؤثر في الناس تأثيراً بليغاً، وحركت فيهم المشاعر، وفتحت عيونهم، بعد ما فقدوا بصيرتهم، فلقيت التعاطف الكبير من الناس؛ حتى نقموا على سلطة ال أمية، ومانتج عنه بعد ذلك من ثورة التوابين، والمختار الثقفي.
أما عن موقفها في قصر الأمارة في الكوفة، عندما خاطبها اللعين ابن زياد فرحاً شامتاً، ( كيف رأيتِ صنع الله بأخيك) فأجابته بكل رباطة جأش ما رأيتُ إلا جميلاً ) إستطاعتْ بهذا الرد المزلزل، أنْ تهزّ كيان ابن زياد، وان تظهر صورة الصبر بأسمى معانيها.
ثم وقفت بكل شموخٍ ، وشجاعة في الشام أمام يزيد عليه لعائن الله، والقت في قلبهِ الرعب عبر كلماتها، وصوتها القوي الهادر، وقد جمع في قصره قيادات جيشه، وزعماء الشام، وأعد المجلس ليكون مهرجاناً للأحتفال بقتل أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تربع هذا الطاغية على كرسي ملكه، وهو يشعر أنه في أوج قوته، وزهوه بانتصاره الزائف، وأخذ ينشد شعره المشهور:
“ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل”
حينها قالت له السيدة زينب (عليها السلام): فوالله ما فريت الا جلدك ولا حززت إلا لحمك ، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت حرمته في عترته ولحُمته حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل احياء عند ربهم يرزقون) وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً وبجبرائيل ظهيراً…
بهذه الكلمات بينت السيدة زينب، أيُّ دين سيدفع افرادُ السلطة الأموية، اذا كان خصيمهم نبي هذه الأمة يوم يبعثون.
وبعد ان انهت عقيلة الهاشميين دورها الأعلامي، الذي لولاه لما وصل الينا إلا النزر اليسير من هذه الفاجعة الأليمة، ولبقيت معركة كربلاء مدفونة في كربلاء،
عادت (عليها السلام) لأرض كربلاء فالشوق لأخوتها احرق قلبها، وطال أمد الفراق بينهم وبينها؛ حتى انها لم تأخذ نصيبها الكافي من الحزن، ولم تقيم مآتم العزاء، كما هو حال كل من يفقد عزيزٌ عليه.
دخلت كربلاء مثقلة الخطوات تبحث عن قبر اخيها الحسين وعن قبر العباس( عليهما السلام) وعن بقية الأقمار التي سقطت في كربلاء،
وكأن لسان حالها ينشد ويقول:
(يانازلين بكربلاء هل عندكم خبر بقتلانا وما اعلامها
ماحال جثةٌ ميت في أرضكم بقيت ثلاثا لايزار مقامها)
ثم التفتت عليها السلام نحو الأمام السجاد وقالت: خذ بيدي فلقد غشي على بصري أصبحت لا أرى، دلّني على قبر أخي، أخذ السجاد عليه السلام بيدها، أقبل بها إلى قبر الحسين عليه السلام وَضَعَ يديها على القبر صرخت الحوراء عليها السلام واحسيّناه، واحسيّناه. أخي حسين هل غسلوك أم كفنوك أم بغير كفنٍ دفنوك…
في ذلك اليوم، أقامت السيدة زينب، أول اربعين للأمام الحسين عليه السلام.
ساعد الله قلبكِ مولاتي، كم من الألم تحملت، أي جرحٌ تشكين لأخيك! هل جرح فقدهِ؟ ام جرح فراقهِ؟ ام جرح السبي؟ أم التعب والأرهاق الذي نال منكِ وهم يتنقلون بكم من بلدٍ إلى بلد؟
السلام عليك ايتها المجاهدة الصابرة
،السلام عليكِ، وعلى صبركِ، وجلدكِ، وشموخكِ، وإبائكِ.
السلام عليكِ يافخر المخدرات، يوم ولدتِ، ويوم استشهدتِ، ويوم تبعثين حيةً.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat