صفحة الكاتب : مجاهد منعثر منشد

دخول السَّبايا الكوفة (قصة قصيرة)
مجاهد منعثر منشد

 وقفتْ الجموعُ المحتشدةُ تشهد عقائل النبوة , في الطريق إلى عبيد الله بن زياد .

سمعتْ آهةً من هنا , شهقةً من هناكَ , كلمةَ رثاءٍ وعزاءٍ , بعضَ نسوةِ الكوفةِ يَندبْنَ مُتَهتِّكاتِ الجيوبِ, بكى الباكونَ لما حلَّ بالمُخَدَّراتِ .

تنظرُ زينبُ لهم , لم تطقْ أَن ترى الذين خذلوا أَباها وأَخاها الحسنَ , وقتلوا ابنَ عمِّها مسلمَ بنَ عقيل , وخانوا الحسينَ .

لعلها حدَّثتْ نفسَها , أَيَبكونَ ؟ وهم ضحاياهم, يرثونَ بنات الرَّسولِ وما انتهكَ حرمتهنَّ سِواهُم !

أَبصرتْهم , أَومأَت, أسْكُتُوا .

طأطأوا رؤوسَهم خزياً وندامةً , ارتدّتِ الأَنفاسُ ، وسكنتِ الأَجراسُ ,خاطبَتهُم : الحمد لله والصلاة على أبي : محمّد وآله الطيّبين الأخيار.

أَمَّا بَعْدُ:

 يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الْخَتْلِ‏ وَالْغَدْرِ وَالْخَذْلِ أَلَا فَلَا رَقَأَتِ الْعَبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ , إِنَّمَا

مَثَلكُمْ كمَثَلِ التي نَقَضَتْ غَزلَهَا مِن بَعدِ قوَّةٍ أَنكَاثاً ، تَتّخذونَ أَيمَانِكُمْ دَخَلاً بَينِكُمْ.

أَلَا هَلْ فيكُمْ إلّا الصَّلِفُ، والعَجِبُ، والصَّدرُ الشَّنِفُ ؟ ومَلْقُ الإمَاءِ ؟ أَو غَمْزُ الأعْدَاء، أو كمَرعَى على دمنةٍ، أو كفِضَّةٍ على مَلحُودةٍ، أَلا سَاءَ ما قَدَّمَتْ لكمْ أَنفسُكُم أَنْ سَخَطَ اللهُ عليكم وفي العَذابِ أَنتمْ خَالدونَ.

أَتَبكونَ ؟ وتَنتَحِبونَ ؟

إي واللهِ ، فَابكوا كثيراً واضحَكُوا قليلاً.

فلقد ذَهَبتُم بعَارهَا وشَنَارهَا ، ولن تَرحَضُوها بِغسلٍ بعدَها أَبَداً.

وأَنَّى ترحَضُونَ قَتلَ سَليلِ خَاتمِ النُّبوّةِ ؟ ومَعدِنِ الرِّسالةِ ، وسَيِّدِ شبابِ أَهلِ الجَنَّةِ ، ومَلاذِ خِيرتِكِم ، ومَفزَعِ نَازلَتِكُم ، ومَنَارِ حُجَّتِكُم ، ومَدَرَّةِ سُنّتِكِم ؟؟

أَلا ساءَ ما تَزرونَ ، وبُعداً لكم وسُحقاً ، فلقد خابَ السَّعي ، وتَبَّت الأَيدي ، وخَسِرَتِ الصَّفقَةُ ، وبُؤتُم بغَضَبٍ من اللهِ ، وضُربَتْ عليكم الذِّلَّةُ والمَسكَنَةُ.

وَيلَكُمْ يا أَهلَ الكوفَةِ !

أَتدرونَ أَيّ كَبدٍ لرسولِ الله فَرَيتُمْ ؟!

وأَيّ كَريمَةٍ له أَبرزتُمْ ؟!

وأَيّ دَمٍ لهُ سَفَكتُمْ ؟!

وأَيّ حُرمةٍ له هَتَكتُمْ ؟!

لقد جِئتُمْ بها صَلعَاءَ عَنقاءَ سَوداءَ فَقمَاءَ ، خَرقَاءَ شَوهاءَ ، كطِلاعِ الأَرضِ ومِلءِ السَّمَاءِ.

أَفَعَجِبتُمْ أَن مَطَرَتِ السَّماءُ دَماً ، ولَعَذَابُ الآخرةِ أَخزَى ، وأَنتُمْ لا تُنصَرون.

فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنَّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصَادِ .

خَطَبَتْ بعدها فاطمةُ وأُمُّ كلثوم , ضَجَّ الناسُ بالبكاءِ , ذُهِلوا , سَقَطَ ما في أَيديهم من هَولِ تلك المِحنَةِ الدَّهماءِ .

أَومأ عليُّ بنُ الحسينِ للناسِ أن اسكُتُوا , خَاطَبَهم: أَيُّها الناسُ! مَنْ عَرَفَني فقد عَرَفَنِي، ومَنْ لم يَعرفنِي فأَنا عليُّ بنُ الحُسينِ بنِ عليِّ بنِ أَبي طالبٍ (عليهِ السلام)، أ نتُهِكَتْ حُرمَتُهُ، وَسُلِبَتْ نِعمَتُهُ، وانْتُهِبَ مالُهُ، وَسُبِيَ عِيالُهُ! أَنا ابنُ المَذبوحِ بِشَطِّ الفُراتِ، مِنْ غَيرِ ذَحْلٍ وَلا تِرَاتٍ.! أنا ابنُ مَن قُتلِ صَبراً، فَكَفَى بذلكَ فَخْراً!

أَيُّهَا النَّاسُ! نَاشَدْتُكُمْ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ؟ وَأَعْطَيتُمُوهُ مِنْ أَنفُسِكُمْ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ وَالبَيْعَةَ، وَقَاتَلتُمُوهُ وَخَذَلتُمُوهُ؟

فَتَبّاً لِمَا قَدَّمتُمْ لأَنفُسِكُمْ، وَسَوْأَةً لِرَأْيِكُمْ.!

 بِأَيَّةِ عَيْنٍ تَنظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّی اللهُ عَليهِ وآلهِ) إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي، وَانْتَهَكْتُمْ حُرْمَتِي، فَلَستُمْ مِن أُمَّتِي؟!

أَجابَهُ الناسُ بالبُكَاءِ والنَّحيبِ.  يقولُ بعضُهُمْ لبعضٍ: هَلَكتُمْ وما تَعلَمونَ!

لَوَتْ زينبُ رأسَهَا عَنهُم , مَضَتْ قدماً حيثُ أُريدَ بِهَا , بَلَغَتْ مَنزلَ أَبيها بجِوارِ دَارِ الإمَارَةِ ,أَحسَّت شَجاً في حَلقِها!

تذكَّرتْ كلَّ قطعَةٍ في ذلك المَنزلِ ,تَرنَّحَتِ الدُّموعُ في مُقلَتَيها ,أَبَتِ الذِّلة عليها , وَضَعَتْ يُمنَاها على ماتَبقَّى من قلبِهِا خَشيَةَ أَن يَتَصَدَّعَ , اجتازتِ السَّاحَةَ الكبرى ,أَشرَفَتْ على قاعةِ مَجلسِ ابنِ زيادٍ , رَأَتهُ جالساً , تُحَدِّثُ نفسَها , هيهاتَ تَرانِي يَتيمَةً ثَكلَى !

تقدَّمتْ بمهَابَةٍ واجلالٍ , تَحفُّها إماؤها , أَخَذَتْ مجلسَها بلا بالٍ بالطاغية .

جلستْ وعَينَاها باديةَ التَّرفُّعِ , قبلَ أَنْ يُؤذَنَ لها بالجلوس, سَأَلَ : مَنْ تكون؟

صَمْتٌ !!!

أَعادَ السؤالَ ثلاثَ مَراتٍ , لاتُجيبُ احتقاراَ له واستِصغَاراً لشَأنِهِ , أَجابَهُ أَحدُ حُضُورِ مجلسِهِ : هذهِ زينبُ بنتِ فاطمَةَ .

غاظَهُ ما كانَ منها , حَرَّكَ لِسَانَهُ: الحَمْدُ لله الَّذِي فَضَحَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ.

نظرتْ إليه باحتِقَارٍ ,رَدَّتْ عليهِ : الحَمْدُ لله الَّذِي أَكرَمَنَا بِنَبِيِّهِ وآلهِ , وطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجسِ تَطهِيْراً, إنَّما يُفضَحُ الفَاسِقُ ويَكْذبُ الفَاجِرُ, وهو غَيرُنَا والحَمْدُ للهِ .

سَأَلها باستِفزَازٍ : كيفَ رَأَيتِ صُنعَ اللهِ بأَهلِ بَيتِكِ؟

 أَجَابَتْ  ومايَزالُ  تَرَفُّعُها:

ما رأيتُ إلَّا جَمِيلاً، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، فَبَرَزُوا إلى مَضَاجِعَهم، وَسَيَجمَعُ الله بَينَكَ وَبَينَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِـمَنِ الْفَلْجُ  يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يابنَ مَرْجَانَةَ.

صَغُرَ الطَّاغيةُ واضْمَحَلَّ , هَمَسَ في أُذُنِهِ عَمْرُو بنُ حُرَيْث: إِنَّهَا امرَأَةٌ، وَالمَرأَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِشَي‏ءٍ مِنْ مَنْطِقِهَا. ، ولا تُذَّمُ عَلى خِطَابِهَا.

خَاطَبَها بتَشَفٍّ :

لَقَدْ شَفَى الله قَلبِي مِنْ طَاغِيَتِكِ الحُسينِ وَالعُصَاةِ المَرَدَةِ مِنْ أَهلِ بَيتِكِ.

رَدَّتْ بِعَبرَتِها قَائلَةً: لَعَمْرِي، لَقَد قَتَلْتَ كَهْلِي، وَقَطَعْتَ فَرعِي، وَاجْتَثَثْتَ أَصْلِي، فَإِنْ كَانَ هَذَا شِفَاءَكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ.

 سَخِرَ مِنهَا بغَيظٍ قَائلاً: هَذِهِ سَجَّاعَةٌ، وَلَعَمْرِي لَقَد كَانَ أَبُوكِ سَجَّاعاً شَاعِراً.

نَطَقَتْ في رَزَانَةٍ صَارِمَةٍ:

 مَا لِلْمَرْأَةِ وَالسَّجَاعَةَ ؟ إنَّ لِي عَنِ السَّجَاعَةِ لَشُغْلاً.

استدارَ بِبَصَرِهِ , تَأَمَّلَ هُنَيئَةً بِوَجهِ الأَسرَى ,أَبصَرَ زَينَ العَابِدِينَ , أَنكَرَ بَقاءَهُ حَيّاً , سأَلَهُ:

ما أسْمُكَ؟

 أَجَابَهُ : عَلِّيُ بنُ الحُسينِ .

تَعَجَّبَ ابنُ زيادٍ , تَسَاءَلَ:

ـ ولكنْ ,أَوَلَم يَقتُلِ اللهُ علَيَّ بنَ الحُسينِ؟

سَكَتَ الفَتَى !

عَادَ الطَّاغيةُ يَستَحِثُّهُ: مَالَكَ لا تَتَكَلَّم ؟

رَدَّ عليهِ الإمَامُ: قَد كَانَ لِي أَخٌ يُسَمَّى عَليّاً قَتَلَهُ النَّاسُ.

صَرَخَ ابنُ زِيادٍ : بَلْ اللهُ قَتَلَهُ.

أَمسَكَ زَينُ العَابدينَ عَنِ الكَلامِ, استَحثَّهُ ابنُ زيادٍ مَرَّةٍ أُخرى , فَأَجابَهُ :  اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حينَ مَوتِها.

صاحَ الطاغيَةُ :

وَبِكَ جَرأَةٌ لجَوابِي؟ وفَيكَ بَقيَّةٌ لِلرَّدِ عَلَيَّ؟

التَفَتَ لِرِجَالِهِ , أَمَرَهُمْ, اذهَبُوا فَاضْربُوا عُنُقَهُ!

اعتَنَقَتْهُ عَمَّتُهُ زينبُ , خَاطَبَتْ ابنَ زيادٍ: حَسبُكَ مِنْ دِمَائنَا! واللهِ لا أُفَارقُهُ، فإنْ قَتَلتَهُ فَاقتُلنِي مَعَهُ!

تَأَمَّلَ ابنُ زيادٍ بُرهَةً , نَطَقَ : عَجَباً للرَّحِمِ! واللهِ إنِّي لأَظنُّها وَدَّتْ أَنِّي قَتلَتُها مَعَهُ! دَعُوهُ!

.......................................

*للكاتب مجاهد منعثر منشد /المجموعة القصصية (ظمأ وعشق لله) , الفصل السادس سبي آل الحسين , ص 116ـ 117.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مجاهد منعثر منشد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/12



كتابة تعليق لموضوع : دخول السَّبايا الكوفة (قصة قصيرة)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net