لغة كلِّ الحروف في يومها

لم تحظَ لغةٌ، أو لسانٌ بحسب متبنيات اللسانيات السوسيرية، بالانشغال والاهتمام والبحث في أدق تفاصيلها، مثلما حصل مع اللغة العربية. ابتداءً كانت لغتنا وعاءً للشعر الذي كانت مرآة العرب في حياتهم ومواقفهم وتاريخهم، ثم لاحقاً احتضنت بين حروفها أهم نص في حياة العرب، وهو النص القرآني، لتتحول أهميتها من المستوى الاجتماعي اليومي إلى مرتبة القداسة، التي تنظم حياة العربي من ميلاده وحتى بعد مماته بحكم هذا الارتباط بالنصوص العبادية. وهي بين هذه الانتقالات والتحولات، لم تفقد أيَّاً من عناصر تأثيرها، بل كانت تستمر في الاخضرار حتى في أوقات الجدب الحضاري للعرب.
وبرغم الجدار الذي أحاطها به بعض حراسها، استمرت لغتنا في مد جذورها وأغصانها بعيدا عن هذا الجدار، الذي انبنى بذريعة الحفاظ على كينونة اللغة وذاتها وملامحها من التهشم. ربما قد نجد عذراً لمن عاش في عصور التدوين الأولى، حين تشددوا في التعامل مع المنطوق والمقروء منها، لكن لا عذرَ لمعتذرٍ بعد أن استقر هيكل اللغة وأساسها ليتعامل بالمنطق نفسه، الذي جعل لغوياً كبيراً مثل أبي عمرو بن العلاء يتحرج ويمتنع عن الاحتجاج بأي بيت من أبيات شعر الإسلاميين في زمن الاحتجاج، كونه كان لا يثق بلسانهم مخافة أن يكون قد شابته شائبة من شوائب اللحن والخطأ اللغوي.
وتحت هذا المعنى، أي سلامة اللغة وسلامة معانيها، عانى كثيرٌ من الشعراء من سطوة الرقباء اللغويين الذين كانوا يحصون على الشاعر خروقاته الإبداعية في شعره ويضعونها تحت عنوان ما لا يجوز. مع أن الشعر (موقف اضطرار) مثلما قال (ابن جني) في كتاب الخصائص، والذي كان يرى أيضاً أنَّ حصان الشاعر جامحٌ لا يتردد ولا يستطيع الشاعر إيقافه حين ينزل عليه وحي الشعر. والحصان هنا كناية عن الحالة الشعرية. وليت كل حرّاس اللغة كانوا بمثل تسامح ابن جني.
إنَّ اللغة، أي لغة، تزدهر وتنمو بالاستعمال والتوسع، وتتجمد وتتكلس وتتجمد حين يضيق استعمالها. لهذا لا يجب أن تستمر فكرة بناء الجدران حول لغتنا، بل إن تركها حرةً طائرةً هو ما يجعلها أكثر تأثيراً وانتشاراً. مثلها في ذلك مثل المال. فاستثمار المال هو الذي ينميه، ولا ينمو مالٌ محبوسٌ في صندوق.
المجد للغتنا، ونحن نحتفي بيومها الذي ستقف فيه كل اللغات لتحيتها. المجد للغة كل الحروف وليس الضاد فقط.

د.عبد الخالق حسن
* باحث وأكاديمي

المصدر: واع


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/12/22



كتابة تعليق لموضوع : لغة كلِّ الحروف في يومها
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net