تقرير لجنة بالمر ... الانحياز والفجاجة
علي بدوان
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جاء تقرير لجنة التحقيق التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة والمعروفة بلجنة بالمر، مخيبًا للآمال، ومنحازًا بطريقة سافرة ابتعد عن المهنية والموضوعية، وغير موثوق على الإطلاق، وقد أقحم صاحب التقرير مجريات التحقيق والمتابعة لرغباته السياسية، فخرج تقريره ليبرأ الاحتلال، بل وليشرع حتى الحصار الظالم والجائر على قطاع غزة والمستمر منذ عدة سنوات.
فتقرير بالمر جاء بعد مشاورات وعمل استمر لفترة طويلة منذ أن أعلن الأمين العام للأمم المتحدة عن تشكيل اللجنة في الثاني من آب/أغسطس 2010 للتحقيق في اعتداء قوات البحرية "الإسرائيلية" على أسطول الحرية رقم (1) بتاريخ 30 أيار/مايو 2010، وما أدى إليه من نتائج كان من بينها استشهاد تسعة من النشطاء المدنيين على متن السفينة التركية "مرمرة"، وجرح خمسين آخرين من المتضامنين الأمميين مع الشعب الفلسطيني. وقد خلصت نتائج التقرير وهي تخالف الإجماع الدولي في تجريم الحصار "الإسرائيلي" لقطاع غزة من جهة وفي إدانة الهجوم "الإسرائيلي" على السفينة مرمرة وباقي قطع أسطول الحرية.
ويبدو أن اللجنة المؤلفة من (جودفري بالمر) رئيس وزراء نيوزيلندا الأسبق رئيسًا و(ألفارو أوريبي) رئيس كولومبيا السابق، قد اختارت لنفسها طريقًا اعتراضيًّا خالفت به كل التحقيقات والتقارير والوقائع التي بثت ونشرت عبر وسائل الإعلام، وقد وقعت كما هو متوقع تحت ضغط أو تأثيرات الجهات الدولية المتسلطة على القرار في الأمم المتحدة، خصوصًا في ظل رجل كان هو الأضعف في تاريخ الأمناء العامين لهيئة الأمم المتحدة، حيث لم يسبق أن مر على المنظمة الدولية رجل كالأمين العام الحالي (بان كي مون) يساير الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب الأوروبي، ويتجنب دومًا قول كلمة الحق في الأزمات الدولية المستعصية، وقد تميز أيضًا بميوعة موقفه فيما يتصل بالصراع العربي والفلسطيني مع الاحتلال التوسعي الصهيوني.
فالشيء الصارخ في تقرير بالمر المنحاز والفظ في انحيازه السافر، اعتباره أن الحصار "الإسرائيلي" المفروض على قطاع غزة لا يتعارض مع القانون الدولي في تحد صارخ للإجماع الدولي، بل اعتبره التقرير إجراءً مشروعًا يستجيب لما يسمى احتياجات "إسرائيل الأمنية والعسكرية" بينما تناسى احتياجات الشعب الفلسطينية بالحرية والكرامة وبفك أسره من قيود وحصار الاحتلال، ومتناسيًا كذلك أن "إسرائيل" قوة احتلال لا يجوز لها حصار مناطق تقع تحت سيطرتها.
وعليه، إن تشكيل اللجنة الدولية المشار إليها من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، وبشخوص عضويتها تثير التساؤل المشروع. فبنية لجنة التحقيق الدولية إياها وبشخصها، كانت موضع استغراب واستهجان كبيرين. وعلى سبيل المثال، كيف يتم اختيار (الفارو أوريبي) كنائب لرئيس اللجنة وهو صاحب سجل شخصي مليء بانتهاكات حقوق الإنسان، والفساد، وتقويض سيادة القانون واستقلال القضاء، واستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان في كولومبيا أثناء فترة حكمه الطويلة، والتي وصلت إلى حد وصمه بمجرم حرب.
لقد كان مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد شكّل بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق من أجل التحقيق في انتهاكات القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان الناشئة عن الاعتداءات "الإسرائيلية" على قافلة سفن المساعدة الإنسانية، وبعضوية خبراء مستقلون ومن ذوي الخبر والسمعة الحسنة للتحقيق في هذا الحادث. وقد قدمت البعثة تقريرها إلى المجلس في جلسته الخامسة عشرة باستخلاصات مختلفة تعتمد على نصوص القانون الدولي، أكدت فيها على عدم قانونية الحصار "الإسرائيلي" على قطاع غزة، والذي اعتبرته شكلًا من أشكال العقاب الجماعي الذي ينتهك القانون الدولي، بما في ذلك المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة. كما يتعارض موقف تقرير هذه اللجنة مع تقرير لجنة جولدستون ومع موقف المجتمع الدولي بشكل عام.
وخلاصة القول، إن تقرير بالمر سيء الصيت والسمعة، يتوافق ويتواءم مع تقرير المعتدي، والمقصود بذلك تقرير"لجنة ياكوب تيركل الإسرائيلية" فيما يتعلق بحصار قطاع غزة والمتضمن أيضا تبرير الهجوم على سفن أسطول الحرية، والذي كان قد صدر قبل فترة قصيرة.
من هنا، كان متوقعًا الموقف التركي الأخير، حيث قررت أنقرة إبعاد السفير "الإسرائيلي" وتعليق اتفاقاتها العسكرية مع "إسرائيل" بعد إعلان نصوص تقرير بالمر الفاضح والمنحاز، وعلى خلفية رفض تل أبيب الاعتذار عن مداهمتها أسطول الحرية العام الماضي وقتل تسعة أتراك على متن السفينة مرمرة، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية التركي داود أوغلو بقوله "إن ما وصل إليه التقرير الذي أصدره رئيس الوزراء النيوزيلندي السابق جيفري بالمر غير مقبول". والمهم في هذا المجال هو استمرار الموقف التركي على ما هو عليه، وعدم الانصياع للطلبات الخارجية التي قد تقدم لأنقره من قبل الولايات المتحدة للتراجع عن موقها الأخير تجاه "إسرائيل" خصوصًا لجهة إيقاف اتفاقيات التعاون العسكري المشترك. فقد سبق وأم قامت واشنطن بممارسة هذا الدور لصالح "إسرائيل" مع عدة أطراف دولية في مناسبات مختلفة.
أخيرًا، إن السلوك الأخير للأمين العام للأمم المتحدة، وتشكيله لجنة مدروسة ومنحازة للتحقيق في حادث الاعتداء على أسطول الحرية، وبالنتائج والاستخلاصات التي وصلت إليها، وهي نتائج تخالف إرادة المجتمع الدولي، فإن مهام عديدة تنتظر الدبلوماسية العربية داخل أروقة المنظمة الدولية وعلى مستوى العالم بأسره، فالمسألة ليست هنا فقط الاعتداء على سفينة الحرية وحصار غزة، بل تتعدى الأمور باتجاه تزوير الحقائق على الأرض بشكل فج ووقح، وما يقدمه هذا التزوير من خدمة لسياسات الاحتلال "الإسرائيلي" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن خدمة للعنجهية "الإسرائيلية" ولحكام تل أبيب الذين باتوا يرون أنفسهم ودولة "إسرائيل" باعتبارها دولة فوق القانون، يحق لها ما لايحق لغيرها دون حسيب أو رقيب.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
علي بدوان

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat