كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

الغراب

لم أكن حيا ، أو هكذا قررت ان أصبح ميتا ، لم اكترث لما سيحدث ، فقرار الموت بالنسبة لي احد الخيارات الجميلة لكي اغادر ما يسمى بالحياة ، كنت ارغب ان اكون غريبا في كل تفاصيل حياتي ، منذ اليوم الاول لوصول الحياة بقطار الزمن حدث ان حصل تماس كهربائي فأحرق البيت كله ، وبصعوبة بالغة اخرجوني من ركام الغرفة التي كادت ان تسقط عليّ بكل محتوياتها ، لكن أمي غادرت الحياة محترقة ، وقف ابي على جنازتها وهو ينظر لي بشيء من النحس ، ربما قال في نفسه :
-    الله يستر منك !
وبعد ان دخلت المدرسة الابتدائية .. في اليوم الأول علقوا قطعة سوداء تشير الى الموت في مدخل المدرسة ، لم أكن اعرف ماذا تعني هذه القطعة في بداية الامر ، لكن ابي اخبرني ان مدير المدرسة تعرض الى حادث اصطدام سيارته وغادر المدرسة والبيت والحياة الى الأبد ، ولم يكن الحال على ما يرام عندما قرروا ان يذهب والدي الى الحرب ، كان مستاء من فعل الموت الذي ينتظره هناك ، وكأن موعد الرحيل قد قرب تماما ، ولا اعرف فعلا لماذا كان ينظر لي نفس النظرات عندما وقف على جنازة أمي وكأنه يريد ان يكرر نفس العبارة في سره :
-    الله يستر منك !!
لم يودعني عندما غادر الى الحرب ، اكتفى بنظراته الغريبة ، ربما يريد ان يقول كل ما يحدث لبيتنا هو من جراء مجيئك الى بيتنا ، ولكنني لم أكن أملك القدرة على اتخاذ قرار بعدم المجيئ ، وربما وصل الى نتيجة ان الحرب التي قامت كانت احد الاسباب بقيامها ، واخذت تأكل الناس بفم واسع جدا .
لم يمض سوى اسبوع واحد حتى عاد أبي بساق واحدة ، لم أكن افهم لماذا عاد هكذا ، واين ترك ساقه الثانية ، لكنني مع الوقت عرفت انها بترت في الحرب ، لم يكن سوى لغم صغير كما كان يتحدث أبي لجميع الذين زاروه في البيت ، وظل هكذا ينظر الى بقايا ساقه المبتورة ويقابله بنظراته المتوجسة اليّ ، وأخذ يربط بتر الساق بمجيئ الى البيت الذي احترق كله وصار رمادا هو وأمي ، واخذت كلما ارى قطعة سوداء معلقة على جدران المدينة اشعر ان هذا الرجل أو المرأة ماتا بسببي ، واشعر ان ابي يطاردني بنظراته المخيفة ...
أكلت الحرب مئات الألاف في مدينتي ، كلهم راحوا بسببي ، تهدم بيت جارنا العتيق ومات صديقي غرقا في نهر المدينة وانتحرت إخلاص حرقا بعد ان اغرقت نفسها بمادة النفط لأنني أحببتها ليوم واحد فقط ، سمعت صياح النسوة الذي اجتاح شارعنا ، وعلمت انها انتحرت محترقة ، لم تكن تعرف بأنني احببتها ليوم واحد على الاطلاق ، لكنها فضلت الموت بهذه الطريقة على حبي لها ، ربما هو أهون من نظرات قلبي وخيال عقلي الذي راح يكتب قصة حب عظيمة كتب لها ان تحترق .
لم أكن حيا ، أو هكذا قررت ان اصبح ميتا ، اغلقت باب غرفتي بإحكام ، اعلنت عزلتي الأبدية علّ الموت يغادر المدينة ، أشعر بأن لعنتي ستتوقف عن خطاباتها المدمرة ، ولكنني عندما خرجت بعد سنة كاملة من اعتكافي في تلك الغرفة المحكمة الإغلاق لم أجد الشوارع والبيوت والدكاكين والناس ، لم اجد شيء يمكن ان أطلق عليه مدينة ، لحظتها فقط قررت أن أحيا من أجل ان انظفها من الركام الذي اجتاحها ، وأجلت قراري القديم أن اصبح ميتا الى إشعار آخر.

2007 دمشق

  
 

طباعة
2011/09/09
3,955
تعليق

التعليقات

يوجد 15 تعليق على هذا المقال.

1
علي عبد النبي البيروتي من •
مع محبتي اريد ان اروي لك طرفة جميلة .. كان احد المعلمين قد التقى بمجموعة من طلبته
وهو يحثهم عن توقعات الامتحانات وسبل النجاح واذا فجأة ودون سيطرة منه اخرج ريح بصوت .. المشكلة ان الجميع احترموا معلمهم ورفعوا عنه الحرج لااحد يتكلم في المسألة لااحد يبتسم وكانهم ماسمعوا شيئا .. لكن العيب في المعلم عاد ليقح مرة ويحشرج اخرى هنا قال له احد تلاميذه استاذ لقد ( ضرطت ) ورفعنا عنك الحرج وتصرفنا وكإننا لم نسمع شيئا لكن ان تجعلنا اغبياء وتمشي علينا فعلتك فذلك لايكون .. لقد ضرطت يا معلمي فلم تقح وتتحنحن ..
2
احمد كنعان من •
النص جميل جدا ولكن يبدو لي أن المؤلف يتمتع بروح مسرحي عالي فلم لا تستغله أخي نعيم ومني لك هذا القول .. لو كتبت المسرح لحصدت الابداع جوائزا وكنت الأول بلا منازع
3
جاسم الصافي من •
لقد ردّ الأخ نعيم الزيدي على كل متقول شكك يوما في ابداعه ومرة أخرى أقول مبدع العراق لن يُطب أبدا