مواقف خالدة... عابس مدرسة العشق الحسيني
حسن الهاشمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسن الهاشمي

كان يقطر ايمانا، كما ان عدوه كان ينزف كفرا والحادا، قطب بوجهه ازاء الظلام، واكتحلت عيناه برؤية الامام، كفر بالجبت والطاغوت، وآمن بالله، فقد استمسك بعروة الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، وهي قمة التمسك بالعروة الوثقى، وتكاد ان تكون أقرب الطرق للوصول إلى المحبوب.
اكرم به وانعم من جواد قد امتطى الحق بحصافته، وترجل عن صهوة الباطل بحسن اختياره، تعالى من موقف هز كيانه، وانتشله من بركة هوجاء خاب اجتراره، طالما اذهلته صولات المناقب والفوائد، وهو يكابد في نفسه لواعج النوائب والمكائد، عابس بوجه الليل وثقله وما يحمل من هواجس، مشرق المحيا بوجه الصبح وما يبشر من صفحات ناصعة لا تعتريها اللوابس.
هو نفسه كما تقاطر على مخيلتك انه عابس بن أبي شبيب بن شاكر بن ربيعة الهَمْدانيّ الشاكريّ، من أهل المعرفة والبصيرة والإيمان، ومن أسرةٍ عُرِفت بالبطولة والإقدام، فبنو شاكر بطنٌ من قبيلة هَمْدان، وقد عُرِفوا بالإخلاص والصدق والتفاني في سبيل الرحمن، وكانوا من حماة العرب الشُجعان، حتّى لُقِّبوا بـ « فِتْيان الصباح » وفيهم قال أمير المؤمنين والبيان، يوم صِفّين حين التقى الجمعان: (لو تمّت عِدّتُهم ألفاً لَعُبِد الله حقَّ عبادته) يكفيك بهذه الكلمة العظيمة شرفاً وفخراً لهذه الأسرة الكريمة.
أي صنف من الرجال هذا الذي يفصح عن خلجات نفسه، وما يعتورها من جنوح للحق؟! أي معرفة تلك التي تفضي لإجابة المنون بصدر رحب؟! أي كمال ذلك التفاني والقتال الشرس حتى الرمق الأخير؟! وأي صفقة تلك التي ابرمها عابس مع آل البيت عليهم السلام؟! وأنه ليدرك أكثر من غيره أنها هي التي توصله الى غاية مناه ومنى غايته، وهل توجد غاية أهم من الرضوان الإلهي حيث الخلود والبقاء، وأدرك عابس أن دونهما خرط للقتاد!.
أقبل على إمامه الحسين عليه السّلام قائلاً له: يا أبا عبد الله، أمَا والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيد أعَزَّ علَيّ ولا أحبَّ إلَيّ منك، ولو قَدَرتُ على أن أدفع عنك الضيمَ والقتلَ بشيءٍ أعزَّ علَيّ من نفسي ودمي لَفَعَلتُه، السلام عليك يا أبا عبد الله، أُشهِدُ اللهَ أنّي على هَدْيك وهَدْي أبيك.
المعرفة هي التي تؤطر للحب معنى، وللدفاع عن المحبوب شوقا، وللتضحية من أجل العقيدة بذلا، هذه المعرفة التي تصل الى ذروة العطاء، عطاء اللذة والولد والزوجة والمتاع، بل عطاء الجسد والنفس والدماء، عطاء متجدد لا حد له ولا انقطاع، انها المعرفة الحقة والذوبان المعطاء، حقا انه عرف الحق بل اندك فيه فعرف أهله فذاب وانصهر في بوتقته ووعائه، أي هدي أرقى وأمض من هدي باب علم الرسول وريحانته في الدنيا؟! فنعم ما انتخب ونعم من أحب، فهو أحب من أحبه الرسول الذي يبلغ بهما ذروة الحب والعشق الإلهي، ولا يزال مندكا في الرسالة والولاية حتى وصل إلى هذه المرتبة من الحب والطاعة والاتباع، وقتئذ لا يلومنه أحد حينما هرول إلى المعركة مصلتا سيفه نَحوَ الاعداء، وبه ضَربةٌ على جبينه، قال ربيع بن تميم ـ وكان شَهِد ذلك اليوم: لمّا رأيتُ عابساً مُقْبلاً عرَفته، وقد شاهدته في المغازي، وكان أشجعَ الناس.. فقلت: أيُّها الناس، هذا أسدُ الأُسُود، هذا ابن أبي شبيب، لا يَخرُجَنّ إليه أحدٌ منكم.
يستمرّ ربيع بن تميم قائلاً: فأخَذَ عابسٌ يُنادي: ألا رجُلٌ لرجل! فقال عمر بن سعد لأصحابه: إرضَخُوه بالحجارة! فرُميَ بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى عابسٌ ذلك ألقى دِرعَه ومِغْفَره، ثمّ شدّ على القوم، فوَاللهِ لَرأيتُه يَكرد ويطرد أكثرَ من مئتينِ من الناس، ثمّ إنّهم تَعَطّفوا عليه من كلّ جانبٍ حتّى قتلوه.
قال: فرأيتُ فرسَه في أيدي رجالٍ ذوي عُدّة.. هذا يقول: أنا قَتَلتُه، وهذا يقول: أنا قَتَلته! فأتوا عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا، هذا لم يقتله سِنانٌ واحد، ففرّق بينهم بهذا القول.
تعالوا قطعوا جسدي اربا اربا، اريد اللحاق بسرعة البرق بركب الفتح المبين، ألا يستحق أن نصفه بانه كان جيشا في رجل ورجلا في جيش، وإلا كيف تنقشع عنه تلك الجموع الغفيرة هاربة بجلدها خوفا من الفناء وهي مدججة بأرقى أنواع السلاح؟! انهم يهربون من الموت وهو يهرب الى الموت، وشتان ما بين الهروبين، عمر بن سعد فسر الهروبين بنصيحتهم ان يرشقوه بالحجارة فلبوا نداءه درءا للموت الأول، وخلع مدرعته وسلاحه اقتحاما للموت الثاني.
وكان قبل ذلك أن أحجم جيش عمر بن سعد بأجمعه عن البروز لعابس حين واجههم ونادى عليهم، فلمّا رأى ذلك منهم خلع سلاحه ودرعه وشدّ عليهم مجرّداً، فقيل له: أجُنِنْتَ يا عابس ؟! فقال: (أجَل، حُبُّ الحسين أجَنّني).
الله الله في الحب والهيام، الله الله في الطاعة والاقدام، الله الله في سر الجنون وجنون السر، انه العشق الذي لا يزال يفتك بصاحبه ليصل إلى مبتغى المعشوق، وهل ثمة مبتغى أغلى من الفوز بالجنة والرضوان، كأنّ هاتفا ينادي يا عابس أتترك الجاه والسمعة والزعامة إلى وقع السنان وضرب السيوف؟!!! ولكن صهيل الخيول وقعقعة الرماح قد أصخت سمعه فحجبته عن كل هراء، انه قمة الجنون، ذلك الذي ينجيك من الزمن الخؤون، ويشرب منتشيا كأس المنون، الذي لا يبالي حينئذ بأموال ولا بنون، الا من أتى الله بقلب رؤوم.
كيف تبوأ ذلك المقام الشامخ من الولاء والمودة والتضحية والفداء؟! التاريخ والاحداث يسجل بأنه من حواريّي أبي عبد الله الحسين عليه السّلام، كان عابس من رجال الشيعة الأشداء، رئيساً شجاعاً خطيباً ناسكاً متهجّداً، بل كان بنو شاكر عموما من المخلصين بولاء أمير المؤمنين عليه السّلام، وممن يشار اليهم بالبنان، من التوكل والرشد والايمان، وكان هو سيدهم فتبوأ قمة العشق الحسيني فأضحى بحبه مجنون وولهان، ولا ريب انه مقام لا يصل إليه إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان، وبموقفه المقدام، استحق هذا المقام الهمام، بكل جدارة واقدام.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat