الموت انطلاقة وليس استراحة
حسن الهاشمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حسن الهاشمي

أيهما أشد وأدهى: موت الجسد أم موت القيم؟! لا شك ولا ريب ان موت القيم أشد وقعا على الأحرار من موت الجسد، فالجسد يحيى بالقيم وبدونه فهو ميت وان مشى بين الأحياء، ونحن في حضرة الموت، كلّ الحروف تخلع دلالاتها، وتدخل خاشعةً إلى مقام العظمة، فالمصير الذي عبرتها الدموع والقهر والأسى لا يصلح أن نمرّ به مرور الكرام.
في هذه الرحلة، القبر لا مجرد مستودع مظلم، بل حفرة من المفترض ان ننزِع منها كلّ ما يثقل، ونزرع فيها كل ما يُضيء، وهذا لا يكون الا إذا وجدنا اجسادنا في العاجلة ليس فقط وجه رجلٍ شاحب، بل مرآةً صادقة لإنسانٍ كرّس حياته لخدمة من لا صوت لهم، ومن لا مغيث لهم، ومن لا سند لهم، إلا رحمةُ الله وما يحيي القلوب، فأهل الزهد يتعجبون بموت أجسادهم، ولكن ينبغي أن يكون عجبهم بموت قلوبهم وقلوب الأحياء من نظرائهم أشد وأنكى.
عند زيارتنا للقبور، ينبغي ان لا نكون كزائرين فحسب، بل كمن دخل مدرسةً للوعظ والارشاد، ومقاما لذرف الدموع، ومحطة لاستشراف الماضي خدمة للحاضر والمستقبل، والتأمّل ينبغي ان لا يقتصر على ساكنيها بل على ما ينتظرنا من هول المطّلع، علينا ان نسعى بأن تكون تلك الحفرة التي تلمّنا في قابل الأيام واحة نظرة، صوتا وصدى، قدوةً وعطاء، علينا ان يكون بصرنا في تلك اللحظة من حديد، نعم ما نشاهده هناك، لم يكن حجارةً مرصوصةً، ولا رخاما نقشت عليه هوية من فات، ولا قناديل مضيئة وباقات زهور، علينا ان نجترّ تلك القناديل وذينك الباقات الى داخل القبر، فتمتد روحا وتحلق من قلب الدنيا لتداوي بها جراحات الآخرة.
في تلك الحفرة التي لو زيد في فسحتها وأوسعت يد حافرها لأضغتها الحجر والمدر، ولسدّ فرجها التراب المتراكم، اسع بأن لا تكون فيها جثة هامدة، بل طبيبًا دوّارا بطبه، وكتابا نافعا بعلمه، وسندا ملبيا لنداء الضعفاء، وسمعة طيبة لمن استذكرك من الأهل والأصدقاء، وامتدادا لذرية صالحة تقتفي الدرب وتوصل العطاء.
لتكن لمساتك المباركة في أروقة القبر، أصدق تجلٍّ للفكرة المحمدية الأصيلة، أن يكون الدين في خدمة الإنسان وان داهمه الخطر فليفده بنفسه وبكل ما يملك، أن يكون الإيمان طريقًا إلى الرحمة، أن تكون الولاية منتجعا للشفاعة، وأن يكون العطاء بلا مقابل، سوى وجه الله ورضا المعصوم وخدمة العباد والبلاد.
الآن اتضحت ملامح السؤال المتقدم أيهما أشد وطأة على الانسان، موت الجسد المجرد أم موت القلب والقيم؟! الجواب عليه لا تكفيه الكلمات، ولا يفيه الحبر، لكنني أكتب، لعلّ ما لا يُقال، تقوله اللغة من فرط امتنانها، ولعلّ قلبا مفعما بالإيمان، لا يتردد من أن يردد ما قاله أمير البيان، في وصف أهل الزهد والتربان: (ويرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم، وهم أشد إعظاما لموت قلوب أحيائهم) نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠ و ١٠٨.
لنقتفي السير ونحثّ الخطى لما هو أعظم من موت الجسد، علينا ان يكون موت جسدنا في الدنيا زهدا وتقشفا واعراضا، أن يكون هذا حافزا ومنطلقا لإحياء قلوبنا، وأن نخلق من جديد على صورةِ عباد الله الصالحين، بجسد مبارك وروح طيّبة وعطاء زاخر، ولا يكون ذلك الا لمن قدّم لما قبل الموت الى ما بعده، فاسع بان تكون كادحا في الدنيا لتستريح في القبر والآخرة، يتوهّم من يعتبر الموت راحة وعدم، بل استراحة مقاتل لينعم بما جاهد وأعطى وقدّم، وهذا ما نجده حقا فيما قاله الرسول الأكرم: (ليس من مات فاستراح بميت، إنما الميت ميت الأحياء) أمالي الطوسي: 28 / 31 و 310 / 625. فالموت انطلاقة وليس استراحة، وليكن وجها مشرقًا لا يُطفئه الزمن.
ميت الأحياء هو الجاهل الغافل وليس العالم المنتبه، ما قيمة المرء يمشي في الأسواق ويأكل ما لذ وطاب من الطعام والشراب ولكن قلبه منكوسا مسودّا من كثرة المعاصي والذنوب؟! فالحياة فرصة لا تجعلها غصة، فرصة للتغيير وليست فسحة للتنظير، انها الجد وليست الهزل، العطاء وليست الخمول، زرع الاثمار والزهور وليست زرع الأشواك والسموم، ما فائدة الحي الميت قلبه؟! فان باطن الأرض خير له من ظاهرها، أما الميت الذي يكون قلبه مفعم بالإيمان فذلك هو الحيَ الحقيقي، وكما قال الشاعر:
لَيسَ مَن ماتَ فَاِستَراحَ بِميت*** إِنَّما المَيت ميت الاِحياء
إِنَّما الميت من يَعيشُ كَئيباً*** كاسِفاً بالَه قَليل الرَجاءِ
هذا هو الفرق بين ميت الأحياء وحي الأموات، بين الجاهل الذي يشري مرضاة الشيطان، والعالم الذي يشري مرضاة الرحمن، بين المنغمس باللذائذ والمنكرات والكادح الى ربه كدحا فملاقيه، بين الانسان الذي بدنه منه في راحة والآخرين منه في عناء، والانسان الذي بدنه منه في تعب والآخرون منه في راحة، وبكلمة واحدة الكافر ميت في الدارين، والمؤمن حي فيهما، عطاؤه دائم لا يبور وذكره عاطر لا يزول، هذا ما أكد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بان الجاهل ميت وان تحرك، والمؤمن حي وإن سكن، بقوله: (الجاهل ميت بين الأحياء) غرر الحكم للآمدي: 2118.
الحياة إذا كانت مفعمة بالحياة فهي الحياة الباقية، أما الحياة إذا كانت مفعمة بالموت فهي الحياة الميتة، وما الموت الا اكسير الحياة يميز الذهب المصفى من المغشوش، فالذهب يبقى متألقا سواء أكان على سطح الأرض أو باطنها، أما الجيفة تبقى نتنة وإن غطّتها تراب القبر لحين من الزمن، فأين من جعل الحياة وسيلة للوصول الى مرضاة الله فيعيش عيشة راضية، من ذلك الذي يجعل الحياة له هدفا ويرضى بعيشة كأداء؟! أين من حضر لا يعد وإن غاب لا يفتقد، من ذلك الذي يكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود لم تكسره؟! أين الذي يكون وبالا على نفسه واسرته ومجتمعه، من الذي يعاشر الناس عشرة إن غاب حنّوا إليه وإن فقد بكوا عليه؟! أين الثرى من الثريا وأين الحصى من نجوم السما؟! وهنا نستطرد ما قاله الشاعر في هذا المنوال حينما صدح بهذه الابيات المعبرة:
وما يُرتجَى من حياة امرئٍ*** كماءٍ على سَبخة راكد
وليس له في غضون الحياة*** سوى النفَس النازل الصاعد
يَغضُّ على الجهل أجفانه*** ويرْضى من العيش بالكاسد
فذاك هو الميتُ في قومهِ*** وإن كان في المجلس الحاشد
وما المرءُ إلا فَتى يغتدِي*** إلى العلم في شَركٍ صائد
سعى للمعارف فاحتازها*** وصاد الأنيسَ مع الآبد
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat