قضينا حلو العمر وأذبنا شمع الدهر في ميادين العلم وأروقة الثقافة وفضاءات التحقيق الحوزويّ والأكاديميّ ، متابعين صامدين .. لكنّا بقينا غالباً لا نعير " الأهمّيّة الميدانيّة الفاعلة " لمثل : التبادر وعدم صحّة السلب ، الخطاب والتلقّي ... فأبقينا علومنا على رفوف التنظير يعلو عليها غبار الإهمال وينبشها التجيير .. بل تجدنا نستخدم المؤنة العلميّة والخزين المعرفي استخداماً أنانيّاً - وربما شيطانيّاً - لتبرير أفعالنا وتمريرها على " عوامّ الناس " الذين نظنّ بهم - سوءاً - المسكنة المعرفية والفقر الثقافي وانعدام الوعي اللازم في تفكيك وفهم المصطلحات الفضفاضة التي "نكشخ" بها لنشوّش أذهانهم ثم نطوّعها لنوايانا ورغباتنا ، لأجل إسكاتهم لا أكثر ، أمّا إقناعهم فدونه خرط القتاد .. غافلين أو متغافلين عن كوننا - مدّعي الوعي والعلم - نحن المساكين حقّاً ، نحن المغلوبين على أمرنا ؛ حين نستكثر على الناس - بالجملة - صحّة الفهم وتسجيل الملاحظة والنقد والاعتراض والرفض والغضب والانتفاض ، فلطالما أثبتوا خطأ حساباتنا في تقييم عقولهم ومنحنيات إدراكهم وبيانات ألبابهم .
وعلى ضوء حساباتنا الناقصة غير الممنهجة فإنّ مشكلتنا غدت نوعيّة مستفحلة :
مشكلتنا أنّنا نتمتّع ونعيش الحياة الناعمة ونستخدم الإمكانيّات الفارهة ونلتذّ - غالباً- في الحِلّ والترحال ونؤمّن لذواتنا وأهلينا - انطلاقاً من الاستفادة المفرطة لمفهوم " الأقربون أولى بالمعروف " - أفضل الفرص ووسائل الراحة ، ملحقين بهم المعارف والأصدقاء خصوصاً المتزلّفين الذين وردت النصوص الصحيحة بوجوب التخلّص منهم ؛ كونهم يحيكون الغشاء السميك الذي يمنع رؤية الحقائق ويفتح باب الغطرسة والكِبَر السيّئة الصيت على أوسع مصراعيها .. لكنّا نحاول - عبر تجيير المؤنة المعرفية والقدرة والنفوذ وحاجة الناس لنا - إقحامَ التصوّر الذي يُسكِت الآخرين لاغير ، مع يقينٍ في أعماقنا يهتف : أنّنا لن نفلح في الإقناع أبدا .
مشكلتنا أنّنا نعلم يقيناً فناء كلّ شيء إلّا وجهه تبارك وتعالى .. نعلم زوال القدرة والمال والنفوذ والسلطة والهيمنة يوماً ما ، لكنّا لانفكّر بالغد القريب حين تحاسبنا الناس قبل حساب ربّ الناس على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ سجّلوها علينا وانتظروا بنا يومَ ضعفنا ووهننا كي يقولوا كلمتهم بحرّيّة واقتدار سلبناهما منهم الآن بفعل غلبتنا واستبدادنا وقوّة نفوذنا وحاجتهم الماسّة لنا .
مشكلتنا أنّنا نقّادٌ من الطراز الرفيع ، فنرمي هذا وذاك بحصى النقد الدامية أو بحجارة التهم القاسية ، متناسين أنّ بيوتنا زجاجٌ كسير ، بل كبيت العنكبوت الحقير ، متجاهلين أنّنا غاطسون من الأخمس حتى الهامة في أخطائنا ونقاط ضعفنا المخجل المثير .
مشكلتنا أنّنا كثيراً ما نعملق أعمالنا ونقفّزها حتى الثريا وأعنان السماء وكأنّها فتح الفتوح .. ونقزّم أعمال الآخرين فلانمنحها الاستحقاق المنصف والتقييم المطلوب .
مشكلتنا أنّنا نمرّ على مفاهيم النقد والمراجعة وإعادة القراءة والفحص والحفر والاستقراء والمقارنة والتحليل والاستنتاج والتغيير مرورَ الكرام ، بل قد نحسبها اقحامات دخيلة ضالّة مضلّة ، دون أن نعي أو نعلم تواتر النصّ بها ، آيةً وروايةً وأثرا .
مشكلتنا أنّنا نغفل حقيقة كون التاريخ - هذا الشامخ الباقي الذي لازال يعاني منّاالضعف - يميل غالباً إلى ضبط خصائص الخلل والنقص والخطأ أكثر من ميله إلى نقيضها .
مشكلتنا أنّنا لانعير أيّة أهمّيّةٍ لما يتبادر في ذهن الناس ، نتغطرس فوق تلقّيهم ، نتعالى على قراءتهم ، ظنّاً منّا أنّنا نفقه كلّ شيء وهم العوامّ الذين لايفقهون أيّ شيء .
ورغم مشاكلنا هذه وماسواها فعزاؤنا الذي قد يضمّد الجراح ويخفّف شدّة الآلام القراح أنّنا نزحف ببطء محدود ؛ لا لشيءٍ سوى لامتلاك البعض منّا الجرأة والشفّافيّة في نقد الذات .. سوى لكون البعض استطاع الاقتناع بالخضوع إلى النهج المعرفي السليم ، فمنح الشطر المعارض من الذات بعض الفرصة والحرّيّة في إبداء النقد والاعتراض والرفض عقب مرحلة تسجيل الملاحظات المعتضدة بالشاهد والدليل .. سوى لكون القلّة منّا قد تعقلنت وفهمت مغازي كلام وأفعال وتقريرات " الحجّة الظاهرة " فاتّبعتها وعجنتها بالحجّة الباطنة فصارت العقل الميداني الفاعل والصمّام العامل.
المناهج العلميّة الصحيحة سندُ الأفهام الرامية لصنع الأفكار الناجعة التي تشقّ الدرب لكسب إمضاء العقل الجمعي ثم المَيْدَنة النقيّة بلاغبار الاستبداد الفردي .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat