يصبح المثقف في سنّ الشيخوخة نادماً جدّاً، حتى من دون أن يشعر حقيقةً بالندم، ومن الطبيعيّ أن تعرف أيها القارئ أنَّ الحمار يكون حماراً فقط عندما لا تجنح ذاكرته نحو الندم، وعندما يكون غارقاً حتى الهامة في نشوة التعاسة، أما لو شعر بالندم لحظةً فإنَّ قوامه سوف يتبدَّل، حتى يتخذ هيأة التراب الناعم، ثمَّ يتطاير في الجوِّ بعد ذلك، حتى يستحيل غباراً.
أروني مثقفاً واحداً لم يشتم الثقافة في حياته، فلماذا تغضبون إذن لو أني نصبت للثقافة تمثالاً ورجمته مثل الشيطان بالضبط؟!.
الثقافة ضدَّ النسل
الثقافة ضدَّ الطعام
الثقافة ضدَّ الصداقة
الثقافة ضدَّ البهجة
الثقافة ضدَّ النوم
الثقافة ضدَّ الأناقة
الثقافة ضدَّ العشق إلا في حيِّز الخيال
الثقافة ضدَّ البراغماتزم وهي الفلسفة الرائجة في هذا الزمان
الثقافة ضدَّ السياسة، أقصد السياسة كما هي مشروعٌ للنهب والسلب في هذه الأيام
الثقافة حتى ضدَّ أن يكون للمرء قبرٌ يليق به بعد الموت، إلا ما يحصل من بعض الاستثناءات النادرة جدّاً، حيث تشاهد بعض الأضرحة على قبور المبدعين العظام، ومع ذلك فإنَّ أضرحتهم فاقدةٌ للمعنى، لأنَّ زائريهم ومن يرفعون أيديهم في التحية عن بعدٍ وقربٍ لا يرونهم يستحقون هذا التعظيم بوصفهم مبدعين كباراً ،
بل بوصفهم من القديسين العظام لا غير.
ثمَّ إني لا أعلم كيف سيجري تقييم الثقافة يوم القيامة
فلربما كان مصيرها إلى جهنَّم وهي تستحقُّ ذلك، فكم من الهرطقات تمَّ تزيينها باسم الثقافة
المشكلة أنَّ الهرطقة هي المادَّة الأوَّلية التي تتكوَّن منها كلُّ ثقافةٍ عظيمةٍ على الإطلاق
والمشكلة أيضاً تتمثَّل في أنَّ استحقاق الهرطقة هو الرجم واللعن على الدوام،
وإلا فخبِّرني عن أولئك القديسين الذين نعظِّمهم في هذه الأزمان، هل كانوا في أزمانهم إلا مجموعةً من المهرطقين الكبار، حيث كان القتل والرجم واللعن مصيرهم على الدوام
عندما تكون الأمم في طريقها إلى الانقراض، لا يكون وجود المثقف بين طبقاتها آنذاك إلا ما يشبه داء الجرب، فهي تعالجه باستمرارٍ بوصفه داءً، وهو لا يعلم ذلك، لأننا اتفقنا على أنَّ المثقف هو أغبى الأغبياء فيما يخصُّ مسألة تقييم وجوده بين طبقات الأمم التي تنقرض، فتراه ينظر إلى نفسه معظِّماً إياها، ومعتبراً أنَّ الناس كلَّهم يمنحونه تلك النظرة.
بيد أنَّ الأمة التي في طريقها إلى الانقراض لا تترك له فرصة أن يستمتع ولو استمتاعاً ظاهرياً بهذا الاعتقاد، فتوجِّه عليه كلابها السلوقية دائماً، فتأكل من لحمه النيّء علانيةً أمام الناس، فيكون مضطراً لأن يضحك رغم الألم، ويكون مضطراً أيضاً لأن يقف شامخاً مثل النخيل.
هذا إذا كان مثقفاً في العراق
أما إذا كان مثقفاً في تلك البلدان التي تنبت الزيتون، فعليه أن يتمتع بصفات الزيتون أيضاً، فلا يبدي امتعاضاً من العصر والمضغ، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ مثقفٍ بحسب ما يكون موجوداً في بلاده من الشجر.
يجوع أساطين الثقافة والنهى
ويضحك منهم ساسةٌ كالأيائلِ
بربِّك لا تمدح كتاباً أمامنا
وإن كان جمَّ النفع عند الأوائلِ
نريد طعاماً أو شراباً مبرَّداً
وخذ أنت ما في الرأس من كلِّ عاقلِ
فنحن زهدنا بالكتاب وأهله
لأنا أكلنا من طعام المزابلِ
مواهبنا عينُ الغباء ولم نكن
عباقرةً إلا برأي المعاولِ
يضحكني مشهد الماغوط حقيقةً وهو يرتدي الفانيلة المثقَّبة من كلِّ جانب، كما اني أتعاطف كثيراً مع الشاعر حسين مردان، لأنه كان يكتب قصائده العمودية المملَّة وهو حاملٌ على كتفه طاسة الإسمنت، ثمَّ يتوعَّد كلَّ صاحب بيتٍ برجوازيٍّ بأن يدوس صدره بالحذاء عندما يغادر اشتراطات الفقر، لكنَّ الملاك عزرائيل كان له بالمرصاد، فداس على صدره المملوء شعراً، قبل أن يتمكَّن إطلاقاً من تحقيق تلك الرغبة، وحسناً فعل الملاك عزرائيل، فإنَّ حسين مردان كان طاغيةً كبيراً، وربما لو تمكَّن من استلام زمام الأمور لتفوَّق في طغيانه على صدام حسين أو على دولة رئيس الوزراء نفسه، فلا ينفِّذ وعده في الانتقام إلا من مجموع الفقراء، تاركاً أصحاب الرساميل الضخمة وهم يتمتَّعون ليل نهار بما أحلَّ وبما لم يحلَّ الله لهم من الطيِّبات والخبائث.
لا يبرأ أحدٌ من دم المثقف، فالكلُّ متهمٌ عندي بأنه قاتلٌ دنيءٌ، حتى بعض المثقفين الذين لا يفقهون ما يقرأون، وإن فهموا فحواه طبعاً، فأن تفقه الشيء غير أن تفهمه بوصفه مطلباً، غالباً ما لا يفطن الجميع إلى ذلك، فيكون قراء الكتب سواسيةً من هذه الزاوية، أما لو نظرنا إلى الأمر من زاويتي أنا، فسيكون الكلُّ مجموعةً من الزناة والقتلة ليس إلا
لماذا نخدع أنفسنا دائماً، فنقول لأبنائنا وأخوتنا الصغار إنَّ الكتابة عملٌ مقدَّس، أو انها عملٌ يستحقُّ الإكبار في كلِّ الأحوال، بينما نحن نعلم أكثر من الآخرين جميعاً أنَّ الأمر لا يعدو رغبتنا في أن يكون للكتابة مثل هذه المنزلة.
أمّا الحقيقة الناصعة التي لا مراء فيها فهي أنَّ الكتابة عملٌ لا يجلب على صاحبه إلا الشقاء من ناحية، وإلا هزء الآخرين ممن يحقِّقون النجاح العمليّ في مختلف جوانب الحياة من ناحيةٍ ثانية.
من جهتي لن أحرِّض أحداً على الكتابة بعد الآن، إلا إذا كان هذا التحريض جزءاً من عملي، مع أني سأمنح الإشارات المتلاحقة لمن أحرِّضه عليها أني إنما أحرِّضه على الكتابة مضطرّاً، وإلا فإني واثقٌ من أنَّ الخير كلَّه في أن يعتزل المرء هذه اللعنة حتى نهاية الحياة.
يقال إنَّ الكتابة تحقِّق للمرء مكانةً وشهرةً في عالم الإبداع والفكر، وهما نعمتان قلَّما تتحقَّقتا عن طريق أيَّة موهبةٍ أخرى، وأنا أعترض على ذلك بوجوه:
الأوَّل: إنَّ الكاتب الحقيقيّ لا يهتمُّ بهذه النتيجة مطلقاً، لأنه منغمسٌ في همّ الكتابة وحزنها حتى النخاع، فليس لديه متَّسعٌ من الفرح ليستمتع بكلِّ ما تتحدَّث عنه هذه الفرضية، ناهيك عن أنَّ الشعور الدائم بالموت يلاحقه في كلِّ آن، فلا يجد فرصةً للشعور بلذَّة الشهرة والمكانة بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
الثاني: إنَّ الشهرة والمكانة ليستا حكراً على عالم الكتابة، بل إنهما لا يحصلان عن طريقها إلا بشقِّ الأنفس كما يقال، وهما مما يحصل على مستوى عددٍ قليلٍ من الكتاب، ولكن مع ذلك، ألا تعتقد معي أيها القارئ الكريم أنَّ لعبة كرة القدم، أو الملاكمة، أو الكمال الجسمانيّ، أو الجمباز، يمكن أن تحصل عن طريقها الشهرة والمكانة أكثر، بحيث تبدو موهبة الكتابة قياساً إلى هذه المواهب الممتازة بحكم اللاشيء تقريباً، فيسقط هذا الافتراض أيضاً من هذه الجهة.
الثالث: حتى لو تحقَّقت الشهرة والمكانة عن طريق الكتابة، فأنا أعتقد أنَّ قلَّةً قليلةً من الناس هم الذين يقرأون أو يفهمون المستويات الراقية من الكتابة، وبالتالي لا يمكن أن يسعد المرء بشهرةٍ تحقَّقت بطريق العدوى، فإنَّ هذا مما لا يسعد به إلا إنسانٌ سطحيٌّ للغاية ليس بمستوى كاتبٍ حقيقيٍّ بطبيعة الحال.
ثمَّ إنَّ الكتابة تطابق الشيزوفرينا بمعنىً من المعاني، فلم أجد كاتباً واحداً استطاع أن يكون على الورق كما هو في الواقع، فهو يلفُّ ويدور كثيراً كثيراً، حتى عندما يقرِّر أن يكتب مذكِّراته بشكلٍ صريح، فإنه يحاول أن يظهر عيوبه بالطريقة التي تجعل منها أماراتٍ للعبقرية، وبناءً على ذلك فإنَّ باسكال أو جان جاك روسو اعترفا فعلاً بالكثير من تصرُّفاتهما مما كان يعدُّ نقصاً في نظر الآخرين، وكذلك فعل فرويد أيضاً، إلا أنَّ الثلاثة جميعاً كانوا غير بريئين من تهمة التظاهر بالعبقرية من الناحية الأخلاقية، فهم إذن لم يعترفوا بنقائصهم وتجاوزاتهم على ما هو لائقٌ في نظرهم، بل حاولوا أن يركِّزوا في أذهان المعجبين بهم أنهم أناسٌ استثنائيون طبقاً لكلِّ المقاييس، فلا يصحُّ قياس أقوالهم وتصرُّفاتهم بأقوال وتصرُّفات الآخرين من غير العباقرة على كلِّ حال.
يضحكني همنغواي كثيراً عندما يؤكِّد على نتيجةٍ مفادها أنَّ الكتابة تبدو سهلةً بيد أنها أشقُّ الأعمال في العالم، فأيَّة كتابةٍ كان يقصد هذا الرجل، فهل كان يقصد كتابته القصصية التافهة، فأنا أعتبرها شيئاً كان يجب أن لا يوجد في عالم الكتابة من الأساس، وإن كان يقصد كتابة المؤلَّفات العظيمة من طراز ما يكتبه محمود درويش، أو أدونيس، أو ما أكتبه أنا على سبيل المثال، فأنا أؤكِّد له أننا لا نعاني مطلقاً في ترتيب العبارات، بل إنها تولد هكذا عفو الخاطر، فأنا أكتب الآن هذا النصَّ مثلاً وأنا مستلقٍ على جنبي أشرب الشاي الساخن الرائع، فأية صعوبةٍ في مثل هذا العمل قياساً إلى ما يقوم به الفلاح أو عامل البناء، ولقد عملت فلاحاً وعامل بناءٍ في المراحل الأولى من حياتي، ولا أتذكَّر أني كنت أحبُّ البشر على الإطلاق ساعة الظهيرة من صيف العراق الحارّ، حتى تركت هذين العملين معاً لأجد نفسي عاشقاً لجميع البشر من الأعماق.
قلت إني أعشق جميع البشر الآن، ولم أقل إني أعشق كلَّ من ينطبق عليه اسم الإنسان، فأنا أعتنق المبدأ القصديّ الذي يفرِّق بين معنى الإنسان والبشر، فالإنسان هو الأعمّ، والبشر هو الأخصّ، فيصحّ أن يقال عن معاوية بن أبي سفيان مثلاً إنه إنسانٌ، لكن لا يصحُّ أن يقال عنه إنه بشر، لأنَّ هذا الإسم الأخير خاصٌّ بالإنسان عندما يرقى إلى مستوى الأولياء، ولهذا فإذا حدَّثتكم عن بغضي لبعض الناس فاعلموا أني أقصد بهم تطبيقات الإنسان وليس تطبيقات البشر، فيجب أن يكون ما أقصده واضحاً في أذهانكم بعد هذا البيان.
هذا أوان الكفر بالكتابة، والإيمان بكلِّ الكلمات التي تقال خلف المنصات ضدَّ الحكومة، أية حكومةٍ في العالم على الإطلاق، فأنا أعتبر الحكومات كلَّها جديرةً بالمعارضة، حتى تلك الحكومات التي يقال عنها إنها أنجزت أشياء جيدةً لشعوبها، فلو توفَّرت لي فرصة الظهور على شاشات التلفاز لأريتهم من حالي عجباً، حتى أني ربما تسبَّبت بسقوط حكومات الشرق الأوسط جميعها في غضون أيامٍ بسيطةٍ لا غير، ولا بأس بأن يقوموا باغتيالي بعد ذلك، لأني أكون قد أنجزت مشروعي كاملاً في تلك الساعة، وأعتمد على من تأثروا بأفكاري أن يتموا إنجاز المهمة في إسقاط من يخلفهم في الحكم بعد ذلك.
الكلمات على الورق لا تؤثر مع الأسف، ولم أغسل بعدُ يديَّ بالماء والصابون من الكلمات التي تقال خلف المنصات أو في شاشات التلفاز، فإذا ما بلغت مرحلة اليأس الكامل من المنصّات ومن شاشات التلفاز فسأقرِّر أن أرمي نفسي من شاهقٍ بعدها، لكي يكون محرَّماً على الناس أن يقرأوا على منتحرٍ مثلي سورة الفاتحة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat