هل العراق دولة دينية ؟ او مدنية ؟
باقر جميل
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
باقر جميل

تظاهر الكثير من الناس في سبيل الاصلاح الذي غيب عنا لسنوات طويلة ، بين رؤساء فاسدين ، ووزراء مرتشين ، وسرقات المقاولين ..!
ومع ظهور هذه الناس فبالتأكيد سوف يدخل معها الأحزاب والمنتفعون وأصحاب المصالح الشخصية او الحزبية ، لإخلال التظاهرات وتشويه صورتها بكل طريقة ممكنة ، فترى هناك من يطالب بالإصلاح العام ، وهناك من يطالب بمحاسبة شخص واحد ، وهناك من يطالب بمطالب تافهة ، وهناك من يطالب بمطالب حقيقية ومشروعة ودقيقة .
أما دور المرجعية فكان كعادته هو روح الأبوة الذي يغطي على جميع العراقيين بدون استثناء ، فقالت يجب توحيد المطالب ، ولابد أن تكون واقعية وجوهرية ، يرتكز عليها قيام الدولة العراقية ، ومن أهم هذه الأمور هي (القضاء على القضاء الفاسد ، وتفعيل دور النزاهة بحيادية ووطنية ، لا بشخصنتها و بتحزبها) ، فبعض الناس عملت بهذه النصائح ، وبعضها بقي للأسف على ما هو عليه ، وبقي يطالب بأشياء مخجلة وتجعل السياسيين يستغلونها لمصالحهم وهم لا يعلمون ، فالذي يتظاهر من الناصرية ، ويطالب باستقالة محافظ واسط مثلا ، أو ان شخصا يطالب بحل كل الحكومة من برلمان ورئاسة وزراء وإجراء انتخابات جديدة ومبكرة ، هذا يعطي للحكومة عذرا في عدم الاستجابة للمتظاهرين ، لان بعضها تافهة ، وبعضها مستحيلة ، وبعضها اخطر من كل شيء .
ومع هذا خرجت الناس بكل أطيافها وألوانها ومذاهبها ، في محافظات الفرات الأوسط والجنوب ، ومن ضمن هؤلاء نشط هناك مجموعة سموا أنفسهم (أصحاب الدولة المدنية )، وهم واقعا في غفلة عن الأمور الحقيقية أو أنهم يعلمون ولكن يتعمدون ما يفعلون (الله اعلم) ، لكن سوف نتكلم على الجانب الأول فقط ..
المطالبة بالدولة المدنية ماذا تعني ؟
وهل نحن دولة دينية ام ماذا ؟
وهل يمكن تحقيق الدولة المدنية في العراق ؟
كم هي نسبة الذين يطالبون بالدولة المدنية ؟
هل المشكلة في العراق بعدم وجود دولة مدنية ام باشياء اخرى ؟
ما هي الرؤيا والخطط التي تعتمد عليها الدولة المدنية في إنجاح العراق من مآسيه ؟
قبل الجواب على بعض هذه التساؤلات لابد ان اذكر شيء مهما جدا وهو :
عندما نقول إن المرجعية تجبر بحكمتها وقوة منطقها القعلاني ، جميع العراقيين بكل توجهاتهم ، سواء كانت يمينية او يسارية ، ودينية كانت او مدنية ، على الأخذ بكلمتها ورأيها ، لا يقبل البعض علينا ويستكثر هذا الأمر ، ومع ان التجارب تثبت ما نقول ،، لكن ....
نادت المرجعية ان الإصلاح والمطالبة به لابد ان تكون حقيقة وجوهرية ، فهل ياترى ان المدنية والدولة التي يطالبون بها هي جوهرية وأساسية لصنع دولة تقوم بالعدل والمساواة ؟
ولذى لنعرف ماذا تعني الدولة المدنية أولا ؟
الدولة المدنية : هي دولة تقوم بالأساس على الفصل الحاسم بين السلطات الثلاث (التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية) ، وتحافظ وتحامي عن كل أبناء الشعب بكل أطيافه وقومياته وأديانه ، ولا تفرق بين احد منهم الا بالحق .
ومن توجهاتها ان يفصل الدين عن الدولة ، ويكون الاحترام الكامل لكل الاديان والمذاهب ، بل ويستفاد من الدين ان تبني الإنسان أخلاقيا وتقومه في سبيل السير بالاتجاه الصحيح ، وان تقوم على السلام والتسامح مع جميع أبنائها ومع الدول الأخرى .
ولنسأل هل في الدستور العراقي مثل هذا الكلام ام لا ؟ بحيث من واجب المدنيين ان يطالبوا بمساواة وفصل السلطات والعدل بين العراقيين ؟
إليك الجواب من الدستور العراقي :
جاء في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004 الفصل الصريح بين السلطات في المادة (4) حيث تقول :
( يقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق او الاثنية أو القومية أو المذهب .) .
وفي المادة (43 ) فقرة أ – ( القضاء مستقل ، ولا يدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل).
وجاء في دستور العراق الدائم لعام 2005 في مسالة الفصل بين السلطات في المادة (47 ) حيث نص
( تتكون السلطة الاتحادية من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وتمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس الفصل بين السلطات).
فهذا القانون يصرح بما هو من مبادئكم ، فهل العلة في الدستور العراقي ام في غيره ؟؟
ولو أخذنا هذا الكلام فهو كغيره في بداية الأمر ، اي الحبر على ورق لان كل حزب وكل نظرية وكل مشروع سياسي ، قائم على هذه الأشياء ماعدا الإسلاميين الذين يطالبون بفرض الدين على الناس قهرا أمثال الوهابية والاخوانية .
فكلامكم هذا ( يا أصحاب الدولة المدنية ) لا يختلف عليه اثنان ، ولا يختلف عن كل الأنظمة التي جاءت ألينا وحكمتنا على مدى السنين الغابرة ،فصدام صدح بما قلتم ، واحمد حسن البكر قال ما قلتم ، ونور سعيد ، والمالكي والعبادي ، كلهم ينادون بما تطالبون به ، فمالذي يدرينا إنكم لا تكونون أسوء منهم ..؟!
نأتي ألان إلى وضعنا الحالي وما هو نظام حكمنا في العراق ، هل هو مدني ؟ أم ليبرالي ، أم رأس مالي ، أم اشتراكي ، أم انه ديني ؟
حسب مبادئ (الدولة المدنية) ، فان الدستور العراقي وطريقة الحكم فيه هي طريقة مدنية بحته لا شبهة ولا إشكال فيها ، فالدستور يعتمد التساوي هو المعيار بين المواطنين ، كما تنادي به المدنية ، وكذلك السلطات فهي مفصولة عن بعضها حسب الدستور ولكل سلطة عملها الخاص الذي يمنعها من ان تتدخل في السلطة الأخرى .
اذا اين المشكلة يا ( أصحاب الدولة المدنية) فهذا الأمر قد حصل قبل ان تطالبوا به ، فلماذا تنادون بالمدنية؟
ومع هذا كله فأن السيد السيستاني قد قالها مرارا وتكرارا ان العراق دولة مدنية ، لا دينية على غرار ايران او السعودية .
اما مطالبتكم هذه التي تعتبرونها هي الأصح والأمثل ، فهذا رأيكم ونحن نحترمه ، لكن بالمقابل لا يمكن ان تحاولوا ان تجعلوه هو رأي الشارع العراقي باكمله ، وتصور الاجواء على ان العراق كله يطالب بما تطالبون به ، فهذه المحاولة هي اول تشكيك في مساعيكم في تحقيق اهدافكم التي تعتبرونها ( نبيلة ) والتي تطالبون بها كل يوم في التظاهرات ، فأنتم كغيركم لديكم مجموعة من الناس وبعض اللافتات تنادون بما تؤمنون به ، فأفضل شيء لكم وللعراق هو ان تصدقوا في تسويق شعاراتكم الى الشارع العراقي ، فهو قد سأم الكذب والكاذبين ..!
في النهاية نريد ان نعرف هل المشكلة في عدم وجود دولة مدنية في العراق ام ماذا ؟ وان حكمت الدولة المدنية هل سيستقر العراق وينعش بالاستقلال الداخلي والخارجي نهائيا ؟
والجواب على هذا السؤال اعتقده معروف ومفهوم لدى الجميع ، لكن نبين الشيء القليل هنا .
المشكلة في العراق ليس نوعية الحكم (مدني او غير مدني) ، فكما شاهدنا ان الدستور يقر بما تطالب به المدنية ، لكن الامر الذي يتخطى هذا الشيء . وهو الانسان الذي يصل الى الحكم .
لابد من تقويم وتغيير الانسان المسيء ، الذي يتولى على هذه القوانين ، لا القوانين ال1ي تتولاه ، وإلا فان الاحزاب التي حكمت العراق (رأس الحكومة ، ووزراء الدولة ، والبرلمان ، ورئاسة الجمهورية) لم تسعى لتطبيق فقرات الدستور ، ولم يحاول البعض منهم تحويل الحكم الى اسلامي ، بل غيروا مفهوم الدستور وعطلوا العمل به لاجل المصالح الشخصية والحزبية والفئوية .
فاصحاب الحكم اليوم عندما يسمعون مطالباتكم بإنشاء دولة مدنية ، يسخرون منكم ويضحكون عليكم ، لان كل ما تطالبون فيه موجود في الدستور فما هي حجتكم بعدها ؟
اما تدخل السيد السيستاني في امور الحكم والذي قد تعتبرونه دمج الدين مع الدولة ، فهذا لو كنتم منصفين ، لم يأتي في كل وقت وفي كل حادثة ، بل عندما تطلب الحكومة منها المشورة ، وعندما تكون الحكومة عاجزة عن فعل شيء ، فان المرجعية تتدخل بمقدار الضرورة ، عندما ترى ان الامر مصيري وترى الحكومة ليس بيدها قدرة على رفع عود ثقاب ، تنادي هي بالاصلاح ايضا .
وان محاربة داعش لابسط مثال في كيفية حفظ العراق بما فيه انتم (أصحاب الدولة المدنية) ، فنادت بالدفاع عن الجميع .
وهذا التدخل لا يشمل حكومة المالكي او الجعفري او العبادي الذي تتوقعونهم من حزب واحد ، بل حتى في حكومة اياد علاوي ، فأياد علاوي لم يفلح في إخماد الحرب التي استعرت في النجف الاشرف الا بعدما تدخلت المرجعية لوقف نزيف الدم ، وأرجعت كل طرف عند حده بكل حكمة وتفاني في سبيل الشعب .
وبالنسبة للإصلاحات فقد انبرى السيد السيستاني لتصحيح وتقويم بعض المطالب التي نادى بها المتظاهرون ، على ان تكون من الامور التي لا يمكن للسياسي ان يراوغ بها او يفسرها على هواه ، فركز على شيئين اساسيين هما (نزاهة القضاء ، وتفعيل لجنة النزاهة البرلمانية ) وهذه المطالب هي من قلب المبادئ المشتركة بين الانسانية بشكل عام ، وبين مبادئ الدولة المدنية ، والدولة الاسلامية ، او ما يعتقدون بغيرها .
فبالقضاء النزيه يبقى العدل هو الذي يحكم بين طبقات المجتمع ، ومحاسبة الفاسدين مهما ارتفع منصبهم .
وتفعيل النزاهة يساهم في نشر ثقافة محاربة الفساد بكل اشكاله وانواعه ، وهو ايضا لا يميز بين سياسي او موضف عادي .
ان تحقق ولو شيء قليل من هاتين الركيزتين لهان الكثير من الامور ، ولحلت الكثير من المشاكل .
وكلمة أخيرة نريد ان نختم بها :
يا ( اصحاب الدولة المدنية ) (لقد كنا نعتبركم من فئات الشعب الطبيعية والعادية ، وكنا نتوقع انكم من ابناء هذا الوطن ولديكم ارائكم وتوجهاتكم التي نحترمهما حتى لو تقاطعت معنا) ، لكن الان وتدريجيا بدأنا نشك في هذا الامر ، حيث ان اتباعكم بدأوا يسيرون في اتجاه لو ثبت انه منكم ، فلن تفلحوا به ابدا ، والدليل على ما اقول هو محاربة الطغاة الذين مضوا للعلماء .
ان اللافتات التي ظهرت في ساحة التحرير وفي غيرها من المناطق في العراق والتي تسيء للمرجعية حاول حاملوها ان يجعلوها في جهة معينة ، فبعضهم حاول ان يقول انها من (اصحاب الدولة المدنية) ، وبعضهم حاول ان يلصقها باتباع التيار الصدري مع ان الثانية فاشلة جدا .
لذى كان واجبا وإلزاما عليكم أن توضحوا ماهية أهدافكم ، وماهية شعاراتكم التي تنادون بها ، فهل الشعارات المسيئة للمرجعية لكم وتابعة اليكم ، وبموافقتكم ؟
وان كانت غير تابعة لكم ، فهي تطلق بإسمكم ، فكونوا أحرارا في دنياكم وتبرؤوا منها ، وحاول إبعادها عنكم قدر الامكان وبكل وسيلة ممكنة ، فان سكوتكم عنها يعرض تظاهراتكم للتخريب والتشويش والتشويه ، ويعرض مطالباتكم للتسييس والعداء الشخصي ، ويكون بذلك خروجكم لا لأجل الإصلاح/ بل لابعاد المرجعية عن إعطاء النصائح للحكومة ،وكذلك الإساءة للمرجعية العليا لا غير ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat