السید السيستاني.. سيرة مواطَنة
مجاهد ابو الهيل
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مجاهد ابو الهيل

بعد نشر عمودي السابق \"السيستاني .. مرجعية وطن\" حملتني مسؤولية بناء الدولة الحديثة في العراق، ان أواصل الكتابة في هذا الاتجاه لإضاءة بعض الأفكار التي فتحت نوافذها عن مواقف المرجع الاعلى، لما قام به من محاولات جادة أسهمت في بناء الدولة وأبعدتها عن جرف الهاوية التي يجرها نحوه الكثيرون بقصد وبدونه، ليس انحيازاً للمواقف الصادقة للمرجع السيستاني فحسب، وإنما انتصار لمحاولاته في بناء الدولة وفق سياقات وطنية.
العمود السابق فتح شهية الكتابة عندي لقراءة الأفكار والمواقف البنّاءة للمرجعية الدينية التي أصبحنا نتلقاها كإرشادات آنية فقط دون محاولة التعمق بمقاصدها البعيدة.
المرجع السيستاني لم يتخذ هذه المواقف بطريقة عابرة او كردة فعل آنية للأحداث لأنه يفكر بعقل مفتوح على احتمالات أكيدة تتعلق بمستقبل البلاد، فهو يفكر ببناء الدولة خارج اطار المدونة الفقهية التقليدية لمدرسة النجف الدينية التي اشتغلت بعيدا عن بناء الدولة وانشغلت عنها طوال عقود، لا لقصور في العقل المعرفي لديها وإنما لابتعاد تجربة الدولة والحكم عن تلك المدرسة.
لكن السيستاني يكيّف محاولة بناء الدولة مع مفهوم المواطنة مبتعدا كل البعد عن الدعوة الى بناء الدولة وفق الأسس الدينية، ولعل ذلك يتجلى في موقفه المبكر من تدوين الدستور الذي علّقه على شرط اجراء انتخابات عامة تؤمّن وجود طبقة سياسية منتخبة من الشعب للقيام بهذه المهمة الوطنية، لأن السلطة من وجهة نظره يجب ان تستند الى الشعب وما يقرره عبر صناديق الاقتراع، والشعب عنده ليس الطائفة او العرق او المكون وإنما هو العراق بكامل اطيافه وبناءاته المجتمعية التي نسجها عبر آلاف السنين، وهو بذلك يحاول تصحيح التفكير ببناء الدولة منذ تأسيسها في أوائل القرن الماضي بطريقة خاطئة او منقوصة في بعض تجاربها، محرجاً جميع الاحزاب والقوى السياسية التي فكرت قبله ببناء الدولة او صياغتها حسب شهية الدوافع الكامنة وراء تلك التجارب.
لقد جرّ السيد السيستاني الطبقة السياسية بكل توجهاتها بعد سقوط الديكتاتور الى منزله المتواضع في النجف للاستماع لآرائه والتعرف على مدونته الوطنية لبناء الدولة متكئاً على ميراثه الفقهي بالاضافة الى الغطاء الاجتماعي الذي وفره الشعب العراقي لمرجعيته في محاولة فريدة من نوعها في تاريخ المؤسسة الدينية في النجف التي تعتمد على المقلدين فقط في تسويق افكارها والاستجابة لفتاواها الدينية وقد أعانته على عبور اطار المقلدين مواقفه الوطنية المبكرة التي كرسته في الذاكرة الجمعية كمرجع وطن وليس مرجع طائفة، لأنه لم يفكر ببناء الدولة داخل اطار المدونة الفقهية الشيعية التي ينتمي لها وإنما غادر ذلك بعد أن كسر اطار التقليد الضيق وقد تأكد ذلك في حمايته للمكون السني في عدة مواقف اتسمت بالشحن الطائفي العاصف بعد ان حاولت إرادات الشر ان تجرّ الطبقة الراديكالية من المكون الشيعي لردة فعل على قيام الطبقة المماثلة من المكون السني ببعض الأفعال الاستفزازية التي استهدفت الجماعة الشيعية في صميم عواطفها لاستفزاز مشاعرها وسحبها نحو منطق الغضب.
هذا الموقف وغيره دفع العقلاء من الجماعة السنية لكي يلجؤوا بمطالبهم الى عباءة المرجع السيستاني وفي اكثر من مرة استشعروا فيها خطرا ما. إن هذه القناعة لم تتشكل بسهولة أو هي نتيجة موقف عابر وإنما جاءت ضمن تراكمات المدرسة السيستانية المعتدلة التي جذّرت في ترسبات القناعة الجمعية لجميع المكونات ان مرجعية السيستاني عابرة لحدود الطائفة وكل الأُطر القومية بشكل مطلق، وهذا ما شكّل قناعة لدى قادة العالم وزعمائه لكي يؤموا النجف للاستماع الى فتاواها الوطنية البنّاءة والانطلاق منها الى حلول تفضي الى اعادة بناء الدولة بعد ان يئسوا من ترويض الطبقة السياسية في حكومة وطنية واحدة.
المواطنة احد اهم مرتكزات المدرسة السيستانية في بناء الدولة العراقية لما بعد الديكتاتور وقد تجلت الدعوة إليها في عدة مناسبات كانت أهمها الدعوة الى المشاركة الانتخابية واعتبارها المفتاح الوحيد لبوابة الديمقراطية التي اقفلتها بوجه العراقيين حكومات وإرادات، لكن الدعوة السيستانية للمشاركة في الانتخابات جرت عكس رياح رغبة الكتل المشاركة في حمى الصراع الانتخابي، فبعد الجولة الاولى في الانتخابات البرلمانية التي شهدت محاولة استغلال طائفي من قبل بعض الكتل المكونية لمواقف المرجعية الحكيمة تنبه المرجع السيستاني الى خطورة ذلك على العملية السياسية مما دفعه للعمل بنظرية الاحتياط واتخاذ اجراءات وقائية تحفظ للديمقراطية جوهرها وللانتخابات استقلاليتها، اذ كان لابتعاده عن الخوض في احاديث جانبية مع بعض الكتل السياسية التي تسهل عملية التوظيف الدعائي ومقاطعته للطبقة السياسية برمتها، مفتاح مهم لاستقلالية العملية الانتخابية، فقد اغلق المرجع الاعلى ابواب منزله الذي لايتجاوز المائتي متر بوجه ضيوفه السياسيين لا لشح فيه وإنما لإيمانه التام بجوهر الانتخابات ومدوناتها التي تحظر استخدام الرموز الدينية في الدعاية الانتخابية، مما صعّب الامر على الكتل السياسية المتبارية ليسهل على الناخبين اختيارهم الذي تركه مشروطا بانتخاب الاصلح والأكثر نفعا لبناء الدولة وحفظ مقدراتها.
في المقالات اللاحقة سنواصل قراءة أفكار اخرى في محاولة تصحيح بناء الدولة، وهي كثيرة طبعا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat