الدكتور عبدالقادر الفاسي الفهري يعد بحق أحد أبرز ممثلي نظرية النحو التوليدي التحويلي في العالم العربي ، وهو نشيط على مستوى النشر باللغتين العربية والإنجليزية ولا أحد يشكك في معرفته الجيدة بهذه النظرية وفي إلمامه بتفاصيلها ودقائقها ومستجداتها.
على أنني هنا لا أسعى إلى مناقشته في معرفته الواسعة بنظرية شومسكي، لأن هذا أمر لا ينكره إلا جاحد، ولكنني سأثير جملة قضايا تتعلق بكتابات الدكتور الفهري ومدى أهميتها في إطار البحث اللغوي العربي وفي إطار المجال التداولي العربي الاسلامي بشكل عام .
وفي هذا الإطار سأحتكم إلى جملة معايير وفي ضوئها سأتعامل مع كتابات الفهري.
المعيار الأول:
علاقة الفهري بالتراث النحوي العربي من جهة التمثل الجيد للنظرية النحوية العربية التي يسعى إلى تجاوزها والقطع معها.
المعيار الثاني:
الفاسي الفهري وإكراهات النظرية
المعيار الثالث:
هل هناك نظرية لسانية يقترحها الفهري بديلا للنظرية العاملية العربية.
المعيار الأول:
دأب الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري على الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي، وسعى جاهدا لتسويغ هذه القطيعة، يقول مثلا : " فالنماذج الغربية أثبتت كفايتها الوصفية وليس هناك ما يمكن أن يشكك فيها بهذه السطحية ".(1)
ثم يؤكد بوضوح رفضه للتراث اللغوي العربي فيقول :"إلا أنه خلافا لما يعتقد، ليس هناك ضرورة منطقية أو منهجية تفرض علينا توظيف هذا التراث"(2)
ويضيف معمما :"لا ضرورة منهجية ولا منطقية تفرض الرجوع إلى فكر الماضي وتصنيفاته ومفاهيمه لمعالجة مادة معينة"(3)
إن الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي غير مسوغ ابستيمولوجيا، فهذا شومسكي مؤسس نظرية النحو التوليدي التحويلي التي يتبناها يعترف بأن مرجعيته في ثورته اللسانية كانت في جانب مهم منها إحياء لما قال به نحاة بور روايال، ولأفكار ديكارت، وأنه أفاد كثيرا من قراءاته لنحو القرون الوسطى وفي مقدمة ذلك النحو العربي والنحو العبري الذي تأثر بالنحو العربي، كما هو معروف، كما أنه اعترف بأنه في مرحلة ما أكب على قراءة سيبويه، وأن كثيرا من الأفكار التي يحملها نابعة من قراءاته لهذا التراث، وهو يرفض بصريح العبارة مايسمى بالقطيعة الابستيمولوجية .(4)
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنني أعتقد أن الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي يستلزم أن صاحب الدعوى عارف بهذا التراث النحوي، مُلِمٌّ بأصوله وجهازه المفاهيمي، ومقدماته التأسيسية، فهل الفاسي الفهري متمثل جيدا لهذا التراث النحوي العربي الذي يدعو إلى القطع معه؟
يمكنني القول بكثير من الثقة إن معرفته بهذا التراث ضحلة شاحبة، ويتجلى ذلك عبر ما يلي :
أ - لغة الفهري.
ب- شواهد الفهري.
ج-عدم تمثله لأحكام النحاة تمثلا جيدا.
أ- لغة الفهري :
إن لغة الفاسي الفهري تبدو ركيكة جدا، بل مفعمة بالأخطاء النحوية الفاضحة ،وهذه أمثلة على ذلك :
1-يفك الإدغام حيث يجب الإدغام، فيكتب مككولي بدلا من مكوليmckawly 2- تقديم المضاف على المضاف إليه في مثل "شومسكي – ملحق ترجمة لعبارةchomsky-adjoined."
3- يقول في كتابه (اللسانيات واللغة العربية) (5) "لذلك وجب أن تكون هناك أيضا براءات للمصطلحات العلمية، كما هو معروف وجاري به العمل"
والصحيح أن يقال :"وجارٍ به العمل"،لأنه اسم منقوص، والغريب أنه يحذف ياء النسبة التي يتعين إثباتها، متوهما أنها ياء المنقوص، فيقول :"ومن ضمن المركبات التي سندرس خصائصها هنا مركبات اسمية يرأسها اسم عاد " والصحيح أن يقال :"اسم عادي".
4- يقول : فإن له فاعل محوري غير اعتيادي ملحق أو منزوع"، والصحيح أن يقال :" فإن له فاعلا محوريا غير اعتيادي ملحقا أو منزوعا".
ب- شواهد الفهري :
أول ما يسترعي الانتباه في هذه النقطة أن الفهري لا يستشهد بالقرآن الكريم ولا بالشعر العربي القديم، بل يكتفي في استدلاله بسوق أمثلة من العربية المعاصرة (عربية الصحافة) التي لا يختلف اثنان حول عدم جواز البناء عليها، وهذا الأمر قاده في أكثر من مورد إلى الاستشهاد بأمثلة لا وجه لها في العربية، وإلى تلحين أمثلة سليمة، وهذه نماذج دالة على ما نقول :
في كتاب (اللسانيات واللغة العربية ) يذكر المثالين التاليين :
1- جاء من ؟
2- من ضرب من بماذا ؟
فالواضح أنه يحاول الاستدلال من خلال التعبير (1) على وجود ما يسمى بالاستفهام الصدى في العربية، ومن خلال (2) على وجود الاستفهام المتعدد، ولكن الثابت قطعا أن هذين النمطين من الاستفهام غير واردين في اللغة العربية، وذلك بحكم أن الاستفهام له الصدارة، والصحيح أن يقال : من جاء؟ بالنسبة ل(1)، ومَنْ ضَرَبَ وَمَنْ ضُرِبَ وَبِمَاذا ضُرِبَ؟ بالنسبة ل(2).
3- زيد جد مريض .
4- زيد جد نافع(7)
والصحيح أن يقال: " زيد مريض جدا "، و "زيد نافع جدا"
5- سوف لا يحضر الرجال(8) والصحيح أن يقال : لن يحضر الرجال ، لأن "سوف" تدخل على الفعل المضارع المثبت .
6-جاء أي أولاد ؟ (9)
والصحيح :أي أولاد جاء ؟
7- زعم أن سوف لن يأتي (10)
والصحيح :زعم أنه لن يأتي، قياسا على أنَّ "سوف" لا تدخل إلا على الفعل المضارع المثبت.
8- يُلَحِّنُ الفهري التعبير التالي : انْتَقَدْتُهُ الرَّجُلَ (بنصب الرجل ) (11)
والخطأ قوله ،فالتعبير سليم وكلمة "الرجل " فيه بدل من الضمير، وهو بدل المظهر من المضمر.
ج- عدم تمثله لأفكار النحاة تمثلا جيدا:
في مقال للفهري منشور بمجلة recherche linguistique الفرنسية (12)يزعم الفهري أن كلمة "الأولاد" من قولنا :"الأولاد جاؤوا " فاعل مقدم والواو حرف وهي علامة للجمع وليست بضمير، وقد ضرب عرض الحائط بكل الاستدلالات القوية التي بسطها النحاة العرب، يقول المبرد:" فإذا قلت : عبدالله قام، فعبدالله رفع بالابتداء وقام في موضع الخبر، وضميره الذي في قام فاعل، فإن زعم زاعم أنه إنما يرفع عبدالله فقد أحال من جهات: منها أنَّ "قام" فعل ولا يرفع الفعل فاعلين إلا على جهة الإشراك نحو: قام عبدالله وزيد، فكيف يرفع عبدَالله وضميرَه؟ وأنت إذا أظهرت هذا الضمير بِأَنْ تجعل في موضعه غيره بَانَ لك وذلك قولك: عبدالله قام أخوه، فإنما ضميره في موضع أخيه، ومن فساد قولهم أنك تقول: رأيت عبدالله قام، فيدخل على الابتداء ما يزيله ويبقى الضمير على حاله.
ومن ذلك أنك تقول : عبدالله هل قام؟ فيقع الفعل بعد حرف الاستفهام ومحال أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله، ومن ذلك أنك تقول : ذهب أخواك وأخواك ذهبا، فلو كان الفعل عاملا كعمله مقدما لكان موحدا، وإنما الفعل في موضع خبر الابتداء رافعا للضمير كان أو خافضا أو ناصبا، فقولك :عبدالله قائم بمنزلة قولك : عبدالله ضربته، وزيد مررت به" (13).
فأين هذه الاستدلالات القوية من قول الفهري إن "الأولاد " في قولنا :"الأولاد جاؤوا" فاعل وأي الرأيين أمنع وأرجح ؟
ويذهب الفهري في نفس المقال إلى القول إن كلمة "بقرة" من قولنا : "بقرة تكلمت " يجب أن تكون فاعلا مقدما، ولا مسوغ في زعمه لعدها مبتدأ لأنها نكرة، والمعروف في النحو العربي أن المبتدأ قد يقع نكرة إذا توافرت الشروط ، والمثال : "بقرة تكلمت " ساغ فيه الابتداء بالنكرة لأن المبتدأ هنا من الخوارق.
ويُخَطِّئُ الفهري المثال التالي : " أزيدٌ رأيتَه "، وهذا دليل على عدم تمثله الجيد لما قال به النحاة العرب، فالنحاة يعدون الهمزة أم باب الاستفهام، ولذلك يجوز معها ما لا يجوز مع غيرها، أي أنه يُتوسع فيها ما لا يُتوسَّع في غيرها من أدوات الاستفهام نحو "هل" وأسماء الاستفهام الأخرى، ولهذا ساغ أن يليها المبتدأ خلافا للبواقي، فالمثال صحيح ولا وجه لتخطئته.
المعيار الثاني:
ننتقل الآن للحديث عن إكراهات النظرية، فقد لاحظت أن الفهري عندما تصطدم الشواهد العربية بالنظرية اللسانية التي يتبناها يسلك سبيلين فإما أن يتهم العربية بالشذوذ أو يسعى إلى إخضاعها بشتى الأشكال لمقتضيات النظرية اللسانية على نحو فيه كثير من العَسْف والقسر، والمفروض علميا أن يتم العكس، أي أن يتم اقتراح تعديل ما في النظرية اللسانية لكي تتسع لاستيعاب الشواهد، وسأضرب مثالا من فرضيته الرابطية.
يفترض الفهري في كتابه : "اللسانيات واللغة العربية" أن البنية المركبية للجملة العربية هي : ف،فا،(مف)، وعندما تستوقفه أمثلة عربية تخلو من الفعل نحو الأمثلة التالية التي يوردها:
1-الهرم مرتفع .
2-أمريض أنت؟
3-السكر من القصب.
4- زيد أستاذ.
نجده يقول :"هذه الأمثلة تطرح عدة إشكاليات، منها أن القاعدة (20) لا ترسمها فيما يبدو، فكيف يتم إذن توليدها" (14)
ثم يقرر أن اعتماد قاعدتين، واحدة ترسم الجمل الاسمية، والأخرى ترسم الجمل الفعلية لا بد أن يضع مثل هذه القواعد من بين القواعد غير الطبيعية وغير المرغوب فيها، ويقرر صراحة أنه يرفض ذلك ،يقول:"ونحن نرفض مثل هذه القاعدة في إطار استراتيجية البحث التي تبنيناها، والتي تجعل من اللغة العربية لغة طبيعية من بين مثيلاتها من اللغات الطبيعية الأخرى "(15).
وكحل لذلك يقترح الافتراض الرابطي، وهو افتراض يوحد بين الجمل التي اعتبرت اسمية وتلك التي اعتبرت فعلية (16)وهذا الافتراض، على حد زعمه، يوحد بين الجمل التي تخلو من الفعل الرابطة والجمل التي تتضمن هذا الفعل نحو :
5- كان في الدار رجل .
6- كان حسين ملكا.
7- كان زيد في الدار.
وبذلك يعمل الفهري على إنقاذ النظرية اللسانية، وذلك بإكراه الأمثلة العربية على تقبل النظرية، قسرا، ثم يخلص إلى أن هذه الجمل الرابطة تتكون من : فعل ومركب اسمي فاعل باعتبار خصائصه الإعرابية "إذ هو مرفوع" والرتبية "في الرتبة الأولى بعد الفعل".
ولا نحتاج إلى الاستدلال على بطلان هذا الرأي، فليس ثمة ما يسوغ افتراض الفعل "كان" في جمل من قبيل :"زيد مسافر" أو "زيد في الدار" لأن هذا النوع من الجمل لا يدل على الماضي، ودليل ذلك عدم جواز نحو :"زيد مسافر البارحة"، ثم إن القول بفاعلية المركب الاسمي في هذا النمط من الجمل بذريعة أنه مرفوع، قول ينتقض بسهولة لإمكان وروده منصوبا بعد "إن" والنواسخ الأخرى.
المعيار الثالث :
يمكن أن أجزم بكثير من الثقة أنه لا وجود لنظرية بديل يقترحها الدكتور الفاسي الفهري، بالرغم من كثرة تشنيعه على النحو العربي الذي اتضح أنه غير ملم به إلماما وافيا، وذلك لعدة أسباب :
أولا : إن الشواهد التي يعتمدها الفهري لتأسيس أنظاره اللسانية ليست شواهد مقبولة في المجال التداولي العربي، وذلك أن القرآن الكريم يبقى الشاهد الأول الذي يتعين اعتماده في أي درس لساني يروم مراجعة الأنظار النحوية العربية القديمة. أما اعتماد لغة الصحافة بدعوى أنها العربية المعاصرة، فهذا غير مقنع إطلاقا، لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولغة القرآن هي اللغة النموذجية التي لا يجوز الانحراف عنها، وستبقى اللغة المهيمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن اتخاذ القرآن الكريم شاهدا أساسا في البحث اللغوي أمر لا ينكره إلا متهافت، وهذه مسألة مجمع عليها من قبل العلماء الأفذاذ المرموقين، ولهذ نجد أن بعض اللغويين الذين سعوا إلى التجديد والتيسير مثل إبراهيم مصطفى في "إحياء النحو" يلتزمون بهذا الأمر .
ثانيا : إن النظرية التوليدية التحويلية سرعان ما يجري عليها التعديل، فهي تتطور على نحو ملموس، ولا أعتقد أن هذه النظرية التي لا تستقر على حال يمكن أن تشكل بديلا للنحو العربي، هذا بالإضافة إلى أن مؤسس النظرية نوم شومسكي لم يكن في نيته أبدا أن يؤسس نحوا بديلا للنحو التقليدي، كما أن البعد الديداكتيكي في نظرية شومسكي غير موجود، وهذا ما اعترف به شخصيا في مؤتمر تعليم اللغات الأجنبية في أمريكا الذي انعقد سنة 1966 حيث قال بصريح العبارة " أود أن أوضح منذ البداية أني لا أسهم في هذا المؤتمر خبيرا في أي جانب من جوانب تعليم اللغات، ولكن بوصفي شخصا همه الأساس بنية اللغة وبشكل أعم طبيعة العمل الإدراكي".
ثالثا : إن سمة الغموض الفاحش في كتابات الفهري تجعل من تمثل آرائه اللسانية مسألة بالغة الصعوبة حتى بالنسبة للمختصين بله غير المختصين، الأمر الذي يبعد معه إمكانية الإفادة منها عمليا.
رابعا : إن كثيرا من أحكام الفهري مغلوطة وفيها نظر، كما أن الشواهد التي يعتمدها عامية وبعضها لا وجه له في العربية الفصحى.
خامسا : إن الفهري سرعان ما يغير آراءه، بل سرعان ما يغير الإطار النظري الذي يتحرك ضمنه، فقد كان يتبنى النظرية المعجمية الوظيفية التي وضعتها اللسانية الأمريكية بريزنن، ثم هجر هذه النظرية ليتبنى نظرية شومسكي العاملية .
خلاصة
يمكن القول إن ما قدمه النحاة العرب وتحديدا الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه هو الوصف النحوي الأمثل الوحيد الذي يعد قائما بين أيدينا حتى الآن، ولا أعتقد أن ثمة نموذجا نحويا آخر استطاع أن يسد مسد هذا النموذج، ولعله من الأفضل في هذه المرحلة أن نعكف على فهم المقدمات التأسيسية للنحو العربي، وصياغتها على نحو صوري رياضي أكثر دقة، مستفيدين في ذلك مما تتيحه أشكال النمذجة الحديثة.
الهوامش:
1- (الفاسي الفهري :" ملاحظات حول الكتابة اللسانية " مقال نشر ضمن كتاب "في اللسانيات واللسانيات العربية "1988.
2- المرجع نفسه.
3- المرجع نفسه.
4- راجع حوارنا مع شومسكي المنشور باللغة الإنجليزية في مجلة اللسان العربي عدد47.
5- ص:62.
6- ص: 110
7- كتاب "البناء الموازي "ص 59.
8- البناء الموازي ص51.
9- البناء الموازي ص59.
10- البناء الموازي ص84.
11- البناء الموازي ص 124.
12- العدد 21 /1992.
13- كتاب المقتضب ص:128 ج 4
14- ص:133 /ج1
15- ص:133 /ج1
16- المرجع السابق ص :134
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
الدكتور عبدالقادر الفاسي الفهري يعد بحق أحد أبرز ممثلي نظرية النحو التوليدي التحويلي في العالم العربي ، وهو نشيط على مستوى النشر باللغتين العربية والإنجليزية ولا أحد يشكك في معرفته الجيدة بهذه النظرية وفي إلمامه بتفاصيلها ودقائقها ومستجداتها.
على أنني هنا لا أسعى إلى مناقشته في معرفته الواسعة بنظرية شومسكي، لأن هذا أمر لا ينكره إلا جاحد، ولكنني سأثير جملة قضايا تتعلق بكتابات الدكتور الفهري ومدى أهميتها في إطار البحث اللغوي العربي وفي إطار المجال التداولي العربي الاسلامي بشكل عام .
وفي هذا الإطار سأحتكم إلى جملة معايير وفي ضوئها سأتعامل مع كتابات الفهري.
المعيار الأول:
علاقة الفهري بالتراث النحوي العربي من جهة التمثل الجيد للنظرية النحوية العربية التي يسعى إلى تجاوزها والقطع معها.
المعيار الثاني:
الفاسي الفهري وإكراهات النظرية
المعيار الثالث:
هل هناك نظرية لسانية يقترحها الفهري بديلا للنظرية العاملية العربية.
المعيار الأول:
دأب الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري على الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي، وسعى جاهدا لتسويغ هذه القطيعة، يقول مثلا : " فالنماذج الغربية أثبتت كفايتها الوصفية وليس هناك ما يمكن أن يشكك فيها بهذه السطحية ".(1)
ثم يؤكد بوضوح رفضه للتراث اللغوي العربي فيقول :"إلا أنه خلافا لما يعتقد، ليس هناك ضرورة منطقية أو منهجية تفرض علينا توظيف هذا التراث"(2)
ويضيف معمما :"لا ضرورة منهجية ولا منطقية تفرض الرجوع إلى فكر الماضي وتصنيفاته ومفاهيمه لمعالجة مادة معينة"(3)
إن الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي غير مسوغ ابستيمولوجيا، فهذا شومسكي مؤسس نظرية النحو التوليدي التحويلي التي يتبناها يعترف بأن مرجعيته في ثورته اللسانية كانت في جانب مهم منها إحياء لما قال به نحاة بور روايال، ولأفكار ديكارت، وأنه أفاد كثيرا من قراءاته لنحو القرون الوسطى وفي مقدمة ذلك النحو العربي والنحو العبري الذي تأثر بالنحو العربي، كما هو معروف، كما أنه اعترف بأنه في مرحلة ما أكب على قراءة سيبويه، وأن كثيرا من الأفكار التي يحملها نابعة من قراءاته لهذا التراث، وهو يرفض بصريح العبارة مايسمى بالقطيعة الابستيمولوجية .(4)
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنني أعتقد أن الدفاع عن القطيعة مع التراث النحوي العربي يستلزم أن صاحب الدعوى عارف بهذا التراث النحوي، مُلِمٌّ بأصوله وجهازه المفاهيمي، ومقدماته التأسيسية، فهل الفاسي الفهري متمثل جيدا لهذا التراث النحوي العربي الذي يدعو إلى القطع معه؟
يمكنني القول بكثير من الثقة إن معرفته بهذا التراث ضحلة شاحبة، ويتجلى ذلك عبر ما يلي :
أ - لغة الفهري.
ب- شواهد الفهري.
ج-عدم تمثله لأحكام النحاة تمثلا جيدا.
أ- لغة الفهري :
إن لغة الفاسي الفهري تبدو ركيكة جدا، بل مفعمة بالأخطاء النحوية الفاضحة ،وهذه أمثلة على ذلك :
1-يفك الإدغام حيث يجب الإدغام، فيكتب مككولي بدلا من مكوليmckawly 2- تقديم المضاف على المضاف إليه في مثل "شومسكي – ملحق ترجمة لعبارةchomsky-adjoined."
3- يقول في كتابه (اللسانيات واللغة العربية) (5) "لذلك وجب أن تكون هناك أيضا براءات للمصطلحات العلمية، كما هو معروف وجاري به العمل"
والصحيح أن يقال :"وجارٍ به العمل"،لأنه اسم منقوص، والغريب أنه يحذف ياء النسبة التي يتعين إثباتها، متوهما أنها ياء المنقوص، فيقول :"ومن ضمن المركبات التي سندرس خصائصها هنا مركبات اسمية يرأسها اسم عاد " والصحيح أن يقال :"اسم عادي".
4- يقول : فإن له فاعل محوري غير اعتيادي ملحق أو منزوع"، والصحيح أن يقال :" فإن له فاعلا محوريا غير اعتيادي ملحقا أو منزوعا".
ب- شواهد الفهري :
أول ما يسترعي الانتباه في هذه النقطة أن الفهري لا يستشهد بالقرآن الكريم ولا بالشعر العربي القديم، بل يكتفي في استدلاله بسوق أمثلة من العربية المعاصرة (عربية الصحافة) التي لا يختلف اثنان حول عدم جواز البناء عليها، وهذا الأمر قاده في أكثر من مورد إلى الاستشهاد بأمثلة لا وجه لها في العربية، وإلى تلحين أمثلة سليمة، وهذه نماذج دالة على ما نقول :
في كتاب (اللسانيات واللغة العربية ) يذكر المثالين التاليين :
1- جاء من ؟
2- من ضرب من بماذا ؟
فالواضح أنه يحاول الاستدلال من خلال التعبير (1) على وجود ما يسمى بالاستفهام الصدى في العربية، ومن خلال (2) على وجود الاستفهام المتعدد، ولكن الثابت قطعا أن هذين النمطين من الاستفهام غير واردين في اللغة العربية، وذلك بحكم أن الاستفهام له الصدارة، والصحيح أن يقال : من جاء؟ بالنسبة ل(1)، ومَنْ ضَرَبَ وَمَنْ ضُرِبَ وَبِمَاذا ضُرِبَ؟ بالنسبة ل(2).
3- زيد جد مريض .
4- زيد جد نافع(7)
والصحيح أن يقال: " زيد مريض جدا "، و "زيد نافع جدا"
5- سوف لا يحضر الرجال(8) والصحيح أن يقال : لن يحضر الرجال ، لأن "سوف" تدخل على الفعل المضارع المثبت .
6-جاء أي أولاد ؟ (9)
والصحيح :أي أولاد جاء ؟
7- زعم أن سوف لن يأتي (10)
والصحيح :زعم أنه لن يأتي، قياسا على أنَّ "سوف" لا تدخل إلا على الفعل المضارع المثبت.
8- يُلَحِّنُ الفهري التعبير التالي : انْتَقَدْتُهُ الرَّجُلَ (بنصب الرجل ) (11)
والخطأ قوله ،فالتعبير سليم وكلمة "الرجل " فيه بدل من الضمير، وهو بدل المظهر من المضمر.
ج- عدم تمثله لأفكار النحاة تمثلا جيدا:
في مقال للفهري منشور بمجلة recherche linguistique الفرنسية (12)يزعم الفهري أن كلمة "الأولاد" من قولنا :"الأولاد جاؤوا " فاعل مقدم والواو حرف وهي علامة للجمع وليست بضمير، وقد ضرب عرض الحائط بكل الاستدلالات القوية التي بسطها النحاة العرب، يقول المبرد:" فإذا قلت : عبدالله قام، فعبدالله رفع بالابتداء وقام في موضع الخبر، وضميره الذي في قام فاعل، فإن زعم زاعم أنه إنما يرفع عبدالله فقد أحال من جهات: منها أنَّ "قام" فعل ولا يرفع الفعل فاعلين إلا على جهة الإشراك نحو: قام عبدالله وزيد، فكيف يرفع عبدَالله وضميرَه؟ وأنت إذا أظهرت هذا الضمير بِأَنْ تجعل في موضعه غيره بَانَ لك وذلك قولك: عبدالله قام أخوه، فإنما ضميره في موضع أخيه، ومن فساد قولهم أنك تقول: رأيت عبدالله قام، فيدخل على الابتداء ما يزيله ويبقى الضمير على حاله.
ومن ذلك أنك تقول : عبدالله هل قام؟ فيقع الفعل بعد حرف الاستفهام ومحال أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله، ومن ذلك أنك تقول : ذهب أخواك وأخواك ذهبا، فلو كان الفعل عاملا كعمله مقدما لكان موحدا، وإنما الفعل في موضع خبر الابتداء رافعا للضمير كان أو خافضا أو ناصبا، فقولك :عبدالله قائم بمنزلة قولك : عبدالله ضربته، وزيد مررت به" (13).
فأين هذه الاستدلالات القوية من قول الفهري إن "الأولاد " في قولنا :"الأولاد جاؤوا" فاعل وأي الرأيين أمنع وأرجح ؟
ويذهب الفهري في نفس المقال إلى القول إن كلمة "بقرة" من قولنا : "بقرة تكلمت " يجب أن تكون فاعلا مقدما، ولا مسوغ في زعمه لعدها مبتدأ لأنها نكرة، والمعروف في النحو العربي أن المبتدأ قد يقع نكرة إذا توافرت الشروط ، والمثال : "بقرة تكلمت " ساغ فيه الابتداء بالنكرة لأن المبتدأ هنا من الخوارق.
ويُخَطِّئُ الفهري المثال التالي : " أزيدٌ رأيتَه "، وهذا دليل على عدم تمثله الجيد لما قال به النحاة العرب، فالنحاة يعدون الهمزة أم باب الاستفهام، ولذلك يجوز معها ما لا يجوز مع غيرها، أي أنه يُتوسع فيها ما لا يُتوسَّع في غيرها من أدوات الاستفهام نحو "هل" وأسماء الاستفهام الأخرى، ولهذا ساغ أن يليها المبتدأ خلافا للبواقي، فالمثال صحيح ولا وجه لتخطئته.
المعيار الثاني:
ننتقل الآن للحديث عن إكراهات النظرية، فقد لاحظت أن الفهري عندما تصطدم الشواهد العربية بالنظرية اللسانية التي يتبناها يسلك سبيلين فإما أن يتهم العربية بالشذوذ أو يسعى إلى إخضاعها بشتى الأشكال لمقتضيات النظرية اللسانية على نحو فيه كثير من العَسْف والقسر، والمفروض علميا أن يتم العكس، أي أن يتم اقتراح تعديل ما في النظرية اللسانية لكي تتسع لاستيعاب الشواهد، وسأضرب مثالا من فرضيته الرابطية.
يفترض الفهري في كتابه : "اللسانيات واللغة العربية" أن البنية المركبية للجملة العربية هي : ف،فا،(مف)، وعندما تستوقفه أمثلة عربية تخلو من الفعل نحو الأمثلة التالية التي يوردها:
1-الهرم مرتفع .
2-أمريض أنت؟
3-السكر من القصب.
4- زيد أستاذ.
نجده يقول :"هذه الأمثلة تطرح عدة إشكاليات، منها أن القاعدة (20) لا ترسمها فيما يبدو، فكيف يتم إذن توليدها" (14)
ثم يقرر أن اعتماد قاعدتين، واحدة ترسم الجمل الاسمية، والأخرى ترسم الجمل الفعلية لا بد أن يضع مثل هذه القواعد من بين القواعد غير الطبيعية وغير المرغوب فيها، ويقرر صراحة أنه يرفض ذلك ،يقول:"ونحن نرفض مثل هذه القاعدة في إطار استراتيجية البحث التي تبنيناها، والتي تجعل من اللغة العربية لغة طبيعية من بين مثيلاتها من اللغات الطبيعية الأخرى "(15).
وكحل لذلك يقترح الافتراض الرابطي، وهو افتراض يوحد بين الجمل التي اعتبرت اسمية وتلك التي اعتبرت فعلية (16)وهذا الافتراض، على حد زعمه، يوحد بين الجمل التي تخلو من الفعل الرابطة والجمل التي تتضمن هذا الفعل نحو :
5- كان في الدار رجل .
6- كان حسين ملكا.
7- كان زيد في الدار.
وبذلك يعمل الفهري على إنقاذ النظرية اللسانية، وذلك بإكراه الأمثلة العربية على تقبل النظرية، قسرا، ثم يخلص إلى أن هذه الجمل الرابطة تتكون من : فعل ومركب اسمي فاعل باعتبار خصائصه الإعرابية "إذ هو مرفوع" والرتبية "في الرتبة الأولى بعد الفعل".
ولا نحتاج إلى الاستدلال على بطلان هذا الرأي، فليس ثمة ما يسوغ افتراض الفعل "كان" في جمل من قبيل :"زيد مسافر" أو "زيد في الدار" لأن هذا النوع من الجمل لا يدل على الماضي، ودليل ذلك عدم جواز نحو :"زيد مسافر البارحة"، ثم إن القول بفاعلية المركب الاسمي في هذا النمط من الجمل بذريعة أنه مرفوع، قول ينتقض بسهولة لإمكان وروده منصوبا بعد "إن" والنواسخ الأخرى.
المعيار الثالث :
يمكن أن أجزم بكثير من الثقة أنه لا وجود لنظرية بديل يقترحها الدكتور الفاسي الفهري، بالرغم من كثرة تشنيعه على النحو العربي الذي اتضح أنه غير ملم به إلماما وافيا، وذلك لعدة أسباب :
أولا : إن الشواهد التي يعتمدها الفهري لتأسيس أنظاره اللسانية ليست شواهد مقبولة في المجال التداولي العربي، وذلك أن القرآن الكريم يبقى الشاهد الأول الذي يتعين اعتماده في أي درس لساني يروم مراجعة الأنظار النحوية العربية القديمة. أما اعتماد لغة الصحافة بدعوى أنها العربية المعاصرة، فهذا غير مقنع إطلاقا، لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ولغة القرآن هي اللغة النموذجية التي لا يجوز الانحراف عنها، وستبقى اللغة المهيمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إن اتخاذ القرآن الكريم شاهدا أساسا في البحث اللغوي أمر لا ينكره إلا متهافت، وهذه مسألة مجمع عليها من قبل العلماء الأفذاذ المرموقين، ولهذ نجد أن بعض اللغويين الذين سعوا إلى التجديد والتيسير مثل إبراهيم مصطفى في "إحياء النحو" يلتزمون بهذا الأمر .
ثانيا : إن النظرية التوليدية التحويلية سرعان ما يجري عليها التعديل، فهي تتطور على نحو ملموس، ولا أعتقد أن هذه النظرية التي لا تستقر على حال يمكن أن تشكل بديلا للنحو العربي، هذا بالإضافة إلى أن مؤسس النظرية نوم شومسكي لم يكن في نيته أبدا أن يؤسس نحوا بديلا للنحو التقليدي، كما أن البعد الديداكتيكي في نظرية شومسكي غير موجود، وهذا ما اعترف به شخصيا في مؤتمر تعليم اللغات الأجنبية في أمريكا الذي انعقد سنة 1966 حيث قال بصريح العبارة " أود أن أوضح منذ البداية أني لا أسهم في هذا المؤتمر خبيرا في أي جانب من جوانب تعليم اللغات، ولكن بوصفي شخصا همه الأساس بنية اللغة وبشكل أعم طبيعة العمل الإدراكي".
ثالثا : إن سمة الغموض الفاحش في كتابات الفهري تجعل من تمثل آرائه اللسانية مسألة بالغة الصعوبة حتى بالنسبة للمختصين بله غير المختصين، الأمر الذي يبعد معه إمكانية الإفادة منها عمليا.
رابعا : إن كثيرا من أحكام الفهري مغلوطة وفيها نظر، كما أن الشواهد التي يعتمدها عامية وبعضها لا وجه له في العربية الفصحى.
خامسا : إن الفهري سرعان ما يغير آراءه، بل سرعان ما يغير الإطار النظري الذي يتحرك ضمنه، فقد كان يتبنى النظرية المعجمية الوظيفية التي وضعتها اللسانية الأمريكية بريزنن، ثم هجر هذه النظرية ليتبنى نظرية شومسكي العاملية .
خلاصة
يمكن القول إن ما قدمه النحاة العرب وتحديدا الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه هو الوصف النحوي الأمثل الوحيد الذي يعد قائما بين أيدينا حتى الآن، ولا أعتقد أن ثمة نموذجا نحويا آخر استطاع أن يسد مسد هذا النموذج، ولعله من الأفضل في هذه المرحلة أن نعكف على فهم المقدمات التأسيسية للنحو العربي، وصياغتها على نحو صوري رياضي أكثر دقة، مستفيدين في ذلك مما تتيحه أشكال النمذجة الحديثة.
الهوامش:
1- (الفاسي الفهري :" ملاحظات حول الكتابة اللسانية " مقال نشر ضمن كتاب "في اللسانيات واللسانيات العربية "1988.
2- المرجع نفسه.
3- المرجع نفسه.
4- راجع حوارنا مع شومسكي المنشور باللغة الإنجليزية في مجلة اللسان العربي عدد47.
5- ص:62.
6- ص: 110
7- كتاب "البناء الموازي "ص 59.
8- البناء الموازي ص51.
9- البناء الموازي ص59.
10- البناء الموازي ص84.
11- البناء الموازي ص 124.
12- العدد 21 /1992.
13- كتاب المقتضب ص:128 ج 4
14- ص:133 /ج1
15- ص:133 /ج1
16- المرجع السابق ص :134
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat