على الرغم من كلِّ ما قيل ويُقال بشأن (الربيع العربيّ) وما خلَّفه من آثارٍ وتداعياتٍ، ولست هنا بصددِ اجترار أحاديثاً مكرورةً، إلا أنَّ أهمّ الحقائق التي بانت ساطعة بهذا الشأن، هي عودة الحياة لإرادة الشعوب العربيَّة التي ناهضت الظلم والاستبداد، بعد أن استكانت واستسلمت لطغاتها طيلة عقود، فما جرى – ويجري - في تونس ومصر واليمن وليبيا، ما كان له أن يتحقَّق لولا إمتلاك الجماهير زمام المبادرة، بصرفِ النظر عن المآلات التي آلت إليها تلك الجهود الجبّارة للجماهير، وكيف تمًّ تجييرها إلى جهاتٍ أخرى وحَرفِها عن مساراتها التي حُدِّدت لها.
وبالنظر إلى أهمية ما حدث في العراق بعد سقوط النظام ودخول قوات الاحتلال الأمريكيّ، إلا أن المُثير للغرابةِ والدهشةِ والحسرةِ في نفس الآن، هو أنَّ المشتغلين في السياسة عندنا، لم ينتفعوا – ويعتبروا – من الدرس العربيّ حتى الآن، فما زالوا أبعد ما يكونوا عن هموم الجماهير والاكتراث بتحقيق ما يؤمِّن لهم المستويات الدُنيا من العيشِ الكريم والحياة المحترمة، فضلاً عن انصرافهم – بشكلٍّ يكاد يكون كُلِّي – لمصالحهم الخاصَّة وتطلُّعاتهم الفئويَّة والحزبيَّة، ولم يُكلِّفوا أنفسهم حتى في تنظيم لقاءات دوريَّة مع الناس والإطلاع على حقيقة معاناتهم، ليخفِّفوا من خيبةِ الأمل التي أصابت الناس جرّاء الوثوق بمن لا يستحقُّ الثقة. طبعاً تحدّث تلك اللقاءات قُبيل المواسم الانتخابيَّة وبشكلٍّ مُكثَّفٍ وكبير من قبل الجميع، وتتناثر فيها الوعود والأعطيات الزهيدة على حدٍّ سواء.
من ينظر إلى الراهن السياسيّ العراقيّ، يرى وبوضح أن آثاره السلبية تنصبُّ فقط فوق رأس المواطن المسكين، فما زالت الزوابع تدور في أروقة هذا الوطن المظلوم، وما زال تراب الضيم والجور يُغطي نخيله، وما زالت مياهه – الشحيحة على أبنائه وهو بلد الرافدين – ما زالت مصطبغة بلون الدم القاني، وما زالت أشلاء العراقيين تتناثر على امتداد تضاريس العراق، كلَّما اختلفت أمزجة الساسة وتقاطعت مصالحهم.
إنَّ الأزمة السياسيَّة الحالية التي تُعصف بالعراق والعراقيين اليوم، هي ليست وليدة الحال، بل هي قائمة منذ بداية العمل السياسيّ بعد الاحتلال وسقوط نظام البعث المقيت، بل وحتى قبل ذلك، كلُّ ما في الأمر هو اختلاف في حيثياتها وأوجهها ليس إلاّ، لأنَّه منذ البداية كانت هناك الكثير من المتبنيات والمفاهيم الخاطئة التي ارتكزت عليها العمليَّة السياسيَّة في العراق، والتي لم يستطع الجميع الفكاك من شرنقتها إلى الآن، ومن أهم تلك الآفات، هو مفهوم (المحاصصة) الطائفيَّة والقوميَّة، و(مبدأ التوافق) و(الشراكة السياسيَّة)، مما أدى إلى ضياع الدور الرقابيّ للبرلمان بحجَّة الشراكة، وحرمان أغلبيَّة أبناء المجتمع من استحقاقاتهم الطبيعيَّة بحجَّة التوافق، وهذا ما أقرَّه واتفق عليه أقطاب العمليَّة السياسيَّة (اليوم) قبل سقوط النظام، ومنذ أيام المعارضة في مؤتمر لندن وصلاح الدين الشَهيرَين، حيث اتفق الجميع على العمل بمبدأ (التوافق) و(الشراكة)، على أسسٍ طائفيَّةٍ وقوميَّةٍ وعِرقيَّةٍ، فقد قرَّروا أن يتمَّ تداول السلطة في العراق حال سقوط نظام البعث، وفق تلك المفاهيم الخاطئة، التي ما زلنا ندفع ضريبتها كل يوم بدماء أبنائنا وأهلينا. والغريب في الأمر، بأنَّ إجتماعات الساسة وإتفاقاتهم، ما زالت حتى الآن تُعْقَد بعيداً عن المواطن العراقي البسيط، فلا أحد يعرف على ماذا اتفق (سادة القوم) في اجتماعات أربيل الأول والثاني والنجف، ولن يعرف أحداً على ماذا سيتفقون؟
ينبغي على الساسة في العراق المُبادرة إلى تغيير المنظومة الفكريَّة التي تسيِّرهم، والتفكير الجديّ والعمليّ بمصلحِة المواطن العراقيّ والسعي الجاد إلى تحقيقها، وعليهم أن يتحرَّروا من الإملاءات الخارجيَّة، ولابدَّ أن يُعيدوا الحياة والهيبة للمنظومة القيميَّة للعمل السياسيّ والحفاظ على ثوبه الناصع، مع ما يقتضيه من خبايا وأسرار ومكر ودهاء وشدّ وجذب، إلاّ أن هذه الأساليب لا يُمكن اعتمادها مع الجماهير، بل لا يُستحسن الركون إليها حتى بين الفرقاء السياسيين أنفسهم، لأنها جُعِلَت للتعاطي مع الخصوم الحقيقيين لاسيَّما في ملف السياسة الخارجيَّة.
وتأسيساً على ما تقدَّم، وعَوداً إلى الاعتبار مما حدث في الوطن العربيّ، لابدَّ أن يُدرك الساسة في العراق، بأن تجسير الثقة مع الناس وتدعيمها بخطواتٍ عمليَّةٍ في طريق تحقيق مصلحة المواطن على المستوى الأمنيّ والخَدَميّ والمعيشيّ، هي السبيل الوحيد لخلاص الجميع، وهي بذات الوقت ما يُحصِّن السياسيّ نفسه من الوقوع في مهاوي التسلُّط ومغريات السلطة وبراثنها، لأن العمل السياسيّ مالم يَعتَمِدُ مصلحة الناس كبوصلةٍ حتميَّةٍ تُحدِّد له وجهته الصحيحة، فهو لا يساوي شيئاً على الإطلاق، وبخلافه فان الإرادة العراقيَّة ليست أقلُّ شأناً من نظيراتها العربيَّة، فليتأمَّل ساستنا الدرس العربيّ جيداً، وليُعيدوا ترتيب أوراقهم قبل خراب البلاد والعِباد.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat