يقول لنفسه ان الفاصل بين الفرح والحزن هو مقدار شعرة , هي ذاتها التي تفصل الحياة عن الموت وكل المتضادات هكذا تتقارب فيما بينها حتى لا تكاد تدرك كنه الانتقال من طرف الى آخر , هكذا أخذ يقول لنفسه وهو يجلس أمام نصب الجندي المجهول في بغداد , نعم , فعلا أحس المسافة الفارقة بين الحياة والموت , ربما تمنى وربما يتمنى , من يعرف ؟ أخرج من جيب سترته بطاقته الشخصية , نظر اليها ثم جال ببصره متفحصا ذلك النصب الضخم , دس يده مرة أخرى في جيبه وأخرج وساما كان قد ناله يوم بترت ساقه في الحرب , وسام صدئ , ينظر صوبه بألم واضح , وينظر صوب الضريح بألم آخر , ألم تذكر معه ألمه بعد أن أوهم نفسه بالنسيان , ولكن أي نسيان ؟ هل كان معلوما أم مجهولا ؟ ماذا تعني له الاوسمة الآن ؟ من يصدق أنه كان محاربا في فرقة المغاوير ؟ من يصدق أن الأوسمة له أصلا ؟ وإن صدق , من يصدق انها أصلية ؟ هل يعقل أن تكون كل هذه الذكريات حاضرا لعجوز يعاني من شلل نصفي ؟ شلل أطاح بإحدى ساقيه , بينما تكفلت الحرب بالأخرى, كل ما يجول في خاطره الساعة , هو الموت نعم أصبح الموت هاجسه الأكبر , وأحس بان المسافة الفاصلة تتسع أكبر وأكبر ؟
لا بد وان الفرق بين الوسام الصدئ وبين ضريح الجندي المجهول فرق شاسع , هو ذاته الفرق بين الجندي المغوار وبين الرجل المشلول , كيف يمكن له أن يضم كل هذه الذكريات , الحياة , التاريخ , البطولة في جيبه , بينما يطاول الضريح أعنان السماء , هل المقارنة بهذا الألم .؟ ماذا لو مات في الحرب يوم بترت ساقه , هل من الممكن أن يكون له ضريح أشبه بهذا ؟ و لمَ لا .؟ فما دام الجندي المجهول له هذا الصرح , فكيف به هو , وهو الذي قتل أبوه في الحرب ؟ وحتى وان لم يكن له هذا الضريح فلا بد من كون الموت في الحرب أهون بكثير , مشلول , يا لبشاعة هذه الكلمة وهي تتردد في اذنه , مشلول لا يقوى على فعل ما يقوى عليه الطفل , الا الذكريات , من سيمنحه الحياة ؟ ومن سيمنحه الموت , هو الآن يقف على الفاصلة بين هذا وذاك , نعم المسافة تطول وتكبر وهو يقف بلا حراك , الى متى سيبقى منسيا ؟ هل نسيه الموت ؟ ما معنى الشلل اذن ؟ أليس ايذانا برحيل نصفه الى الأبد ؟ ما معنى بقاء النصف الآخر أو ما هو أقل منه , هل بقائه يكمن في تحفيزه على الألم ؟ ماذا سيفعل الآن , انه اليوم الثالث وهو يجلس بلا حراك ؟ ماذا سيفعل ؟ ماذا يفعل الآن ربما لن يقترب منه أحد , نعم كم تمنى الآن لو يسير في الهواء , أو يركب حصانا أبيضا تتدلى خصلات من شعره كالحرير , نعم تمنى أن يصبح طفلا , لا أكثر , ولا أقل من طفل .. انها اللحظة الحقيقية لوحيد يتوسط الجموع , ما اقساها
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat