داهمه إحساسٌ غريب لا يستطيع الفكاك من إساره ، شيء لا يقدر التدقيق فيه ، ملأ الفراغ من حوله بأشباح الموجودات ، الدولاب ، المنضدة ، الجدار ، الكتب ،وحتّى الملابس المعلّقة توحي بأنّ شيئاً ما غير محدّد الملامح سوف يغدر به ، يغتاله ، أو ربّما يبتلعه عن قريب أو بعيد ، الأجدر به أن يبقى في غرفته ، ولكنْ ..
لماذا؟
إلى متى ؟
ما الذي يعمله خلال بقائه ؟
أسئلة كثيرة راودته ، ليس له أيّة مهمّة .. ظلّ يخاطب نفسه ، لابدّ من الخروج من هذه الغرفة الحقيرة ، من الممكن أن يسقطَ سقفها ويقتلني .. إذن .. لابدّ من الإسراع بالخروج ، الأفكار السوداء تفترسني .. إلى أين ؟
إلى الشارع ؟
إلى المقهى ؟
ربّما السيارات المارقة المتهوّرة تدهسني .. أو الجلوس في المقهى على كرسي من المحتمل أن يتحطّم تحتي ويكسر ساقي فيكون موتي بطيئاً ..
كلّ شيء يوحي بالموت .. يتجوّل في الشوارع ، يسرع تارة وأخرى يسير ببطء ، وهو مولّع بالأحاسيس ، يشدّ عينيه على الأشياء ، المحلّات ، السيارات ، البيوت ، ينظر إلى الأولاد وهم يلعبون في الزقاق ، يتحسّس وجهه بأصابعه 0 بقلق واضح للعيان ، الارتباك يزداد .
أين الذهاب ؟
ما العمل ؟
قادته قدماه إلى الزقاق المقابل ، شاهد مجموعة من الناس تحمل نعشاً ، تشيّعه .
سأل : كيف مات هذا الشخص؟
أجابه أحدهم : المرحوم كان جالساً قرب حائط قديم ، آيل للسقوط فسقط علية وقتله
قـــال في سره : ربّما كنت أنا المقصود ، لكنّني ابتعدتُ عن المكان .
الألم يعتصر قلبه ، قَلِقا ً ، مرتبكا ً ، خائفا ً يتصوّر بأنّه سوف يموت عن قريب لامحالة.
شاهد عزاءً في إحدى الحسينيات ، عندما قَرأ سورة الفاتحة ، سأل الشخص الجالس جنبه.
ـــ المرحوم كيف مات ؟
أجابه : توفي إثر صعقة كهربائية عندما كان يبدّل أحد النقاط التالفة .
قــال في سره : لن أبدّلَ أيّة نقطة كهرباء مستقبلاً حتّى لا أفقدَ حياتي .
تجوّل في الطرقات وهو حذر من كلّ شيء السيارات المارقة ، الحيطان ، أسلاك الكهرباء ينوء بأثقاله ، همومه التي لا تنتهي .
أخيراً .. قرّر أن يذهب إلى النهر الذي كان مدمناً على رؤيته ، يجلس على أحد المساطب القريبة منه ينظر إلى أمواجه.. إلى جريانه ، كان النهر صديقاً حميماً له، يرمي حجارةً صغيرة يوقظه من نومه ، تكلمه الدوائر بلغة الأمواج المتلاطمة ، يحكي أحزانه ، فتخفّف عنه الكثير من همومه .. كان يكلّم نفسه ، سأفتح الحديث مع صديقيَ النهر الذي طالما وقف ويقف في محنتي ، أكلّمُه عن الإرهاصات التي تعتصر قلبي وتزيدني قلقاً وخوفاً فتربكني ، يرتجف لا يستطيع السيطرة على السير...
قــــال : صديقيَ العزيز ..هل نسيتني ؟
ــــ أجابه بأمواجه المتلاطمة على الجرف ، إنّني لم أنسك ، أنت الذي انقطع عني .. لم تواصلني .
قــــــال : ظننتُك ميتاً ، جافّاً ، الطحالب جثمتْ على صدرك وجعلتْ ماءك أخضراً .
ـــــ أنا لا أموت ! هل سمعت يوماً بأنّ الموتَ يموت ؟
ــــ لا لم أسمع .
ــــ صديقي من يحبّ الإقامة في جوفي،إنّك في مرحلة امتحان عسير،متى ما عجزتَ عن تجاوز الصعاب ، فأنا استقبلك ، أضمّك في أحضاني .
ــــ كلّ هذه السنين وأنا أقصّ عليك القصص والأشعار وأنت صامت تمتصُّ همومي وتدعني أذهب .. ما الذي غيّرك ؟ حتّى تقول إنّ صديقك من يدخل إلى جوفك وأنت تعلم أنّني لا أستطيع العوم في الماء !
ـــــ أنت خائفٌ مني ، كنت تغسل وجهك أكثر من مرّة وأنا أشمّ عطرك ، هل تخاف مني ؟ أقصد من الموت !
ـــــ لا.. أنا لا أخاف الموت .
لقد أغاظه ، اِستغلّ لحظة ضَعفه ، تحرّكت رجولته ، اِقترب منه ، تحرّك بارتباك ، اِنزلقتْ قدماه .. لا يوجد شيء يتمسّك به ، يتشبّث به .. خارت قواه ، ظلّ يشدّه بقوّة ، كان الأجدر أ لّا يدعه ،يجرجره بالحديث ، فَيُقْتَلُ من قِبل أعزّ الأصدقاء .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat