سلسلة المعرفة الحلقة الرابعة والعشرون أهمية الإيمان بالله أو الكفر به
د . محمد سعيد التركي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . محمد سعيد التركي

كما بيّنا في الحلقات السابقة أن الإسلام والإيمان ليسا كما يَطلق عليهما الناس اليوم بما علموا، أنها مجرد علاقة بين العبد وربه وكفى، فمن آمن آمن، ومن كفر كفر، ومن لم يهتم فشأنه شأن غيره ممن آمن أو كفر، والمشكلة شخصية لا أكثر.
لو كان الأمر كذلك لكُفينا عناء الدعوة وتكاليفها ومشاقّها الآن، ولكُفيَها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أول ما أرسل برسالة الإسلام، ولمَا آذاه أحد من كفار قريش أو حاربه، ولما أصبح للمسلمين دولة عظمى قادها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبعه فيها الخلفاء الراشدون ومن أتى بعدهم، لمدة إثني عشر قرن من الزمان .
ولذلك يجب أن يدرك الإنسان أن مسألة الإيمان أو عدمه، هي التي لها التأثير المباشر في تحديد مفاهيم الإنسان في كل جانب من جوانب الحياة، كمفاهيم الإتباع والطاعة والولاء، وكمفاهيم الخير والشر، والحُسن والقُبح، وكمفهوم السعادة والحرية، وكمفهوم العمل الصالح، ومفهوم العائلة والأبناء والوالدين والجيران والمجتمع، ومفهوم المال من ناحية حيازته وكسبه وصرفه، وغير هذه المفاهيم الكثير، الذي تحدد مسار حياة الأفراد في علاقاتهم مع الله، ومع غيرهم من الناس، وفي علاقتهم مع أنفسهم في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم وغيره .
هذه المفاهيم هي الأساس كذلك فيما يتعلق بالبناء الاجتماعي للمجتمعات، وتحديد هوية المجتمع بأفكاره وأنظمته ومشاعره، وتحديد الأفكار والمقاييس والقناعات التي يحملها، وبالتالي في صناعة العادات والتقاليد والأعراف التي يعيش بها المجتمع، فتكون هي الأساس الذي تتعارف به وتحاسب بعضها على أساسه .
وكذلك فإن هذه المفاهيم التي تنتج من خلال العقيدة، أيُّ عقيدة كانت، عقيدة إيمانية بوجود الله أو عقيدة كفر، فإنها تقرر كذلك صفة الدول التي تقوم على المفاهيم التي تقررها هذه العقيدة، بدءاً من مفهوم الحكم لله (الخلافة)، أو مفهوم الحكم للشعب (الديمقراطية)، مروراً بتقرير السيادة لله كما في دولة الخلافة، أو للشعب كما في الدول الديمقراطية، أو للملك أو للرئيس كما في الدول العربية وغيرها . وتقرير السلطان (أي القوة التي يعتمد عليها الكيان السياسي القائم) إما للشعب كما في دولة الخلافة، أو لقوة خارجية(في حال الدول المحتلة كالدول العربية أو غيرها حالياً)، أو للحزب الشيوعي الحاكم "بقوة الجيش" كما كان في الإتحاد السوفيتي، وانتهاء بالمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي تتبناها الدول على حسب عقيدتها وعقيدة شعوبها .
إن العقيدة الإسلامية حتى ولو كانت عند فرد واحد فإنها ذات بُعد عالمي، يصل إلى إنشاء دولة كما حصل مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان فرداً واحداً، وبالتالي إلى إنشاء دولة ذات هوية بمفاهيم معينة تصبغها وتصبغ أفكارها وعلاقاتها وأفرادها، وتقرر هوية مجتمعها، وتقرر سياساتها الداخلية والدولية والعالمية .
وكذا الحال فإن العقيدة الرأسمالية التي نشأت مؤخراً بمبدأ فصل الدين عن الحياة، أي بتهميش الدين كاملاً، بل وباستبعاده عن كافة شؤون الحياة الداخلية والخارجية والاجتماعية والاقتصادية للناس، هذا الفكر وهذه العقيدة التي لم يكن نشوؤها قائماً على أساس فكري عقدي منظم (كما حصل من خلال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم)، بل قامت من خلال حل وسط وصلت إليه أوروبا، بعد معارك تاريخية طويلة وعنيفة ودامية بين القياصرة من جهة، ورجال الدين المسيحي من جهة، والعلمانيين الرافضين لفكرة الدين من جهة أخرى، حتى أنتجت في آخر المطاف عقيدة راسخة تقوم على التحرر من الدين وأحكام الكنيسة، وكذا التحرر من أحكام الملوك والقياصرة، فالتحرر من كافة التشريعات فيما يتعلق بالحياة الشخصية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية وغيرها، حتى أنتجت هذه المطالب التحررية نظام الحكم الديمقراطي الذي يقرر فيه الناس بأنفسهم الأحكام التي يريدونها ويرتضونها لأنفسهم في كافة مناحي الحياة، وعلى هذا الأساس قامت الدول الرأسمالية الحالية المهيمنة على العالم .
لقد بدأت الويلات والنكبات تنكب أولاً على الشعوب الغربية أول نشوء هذه الدول، حيث أفرزت كوارث داخلية على شعوبها من العبودية المُذلة ومن الفقر والعوز والظلم، واستبداد أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة (الرأسماليون) واستلامهم قيادة شعوبهم، حتى بدأ الاحتلال الغربي لأراضي العالم المجاور، الإسلامي وغير الإسلامي وخاصة للبلدان ذات الموارد الطبيعية، هنا بدأ الضغط يخف على الشعوب الغربية التي تطورت أوضاعها وتحسنت بنشوء الأحزاب السياسية والنقابات، وتقاسم الثروات المنهوبة مع الحكام الرأسماليين .
لقد استغل العالم الغربي عقيدته الإجرامية هذه، التي قامت على إعتبار أن المصالح هي أمُّ القيم في احتلال بلدان العالم الإسلامي، الذي ذهب لقمة سائغة بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في العام 1924 ميلادية 1342 هجرية، وفي احتلال أي بلاد وشعوب في كافة أنحاء العالم دولها ضعيفة أو صغيرة أو غير متطورة من الناحية العسكرية والدفاعية، وهكذا انطلقت أوروبا بكل دولها (أسبانيا وبريطانيا وهولندا والسويد وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم) في كل الاتجاهات تنهب هنا، وتحتل هنا، وتدمر هناك، وتضع يدها على البلدان وتقتل الناس، وتستعبد الرجال والنساء، وتقتل الأطفال، واستباحت بالأسلحة الجديدة النارية كل الشعوب والبلدان الآمنة في كل أنحاء العالم، فالعقيدة الجديدة قد أباحت لها ما لم يحصل في تاريخ البشرية وفي حاضرها من عقائد ومفاهيم وأفعال، وكأن الشيطان بجنوده انتصر أخيراً على الإنسان في الأرض، فقضى على القيم التي خلقها الله في الإنسان وأوجدها على الأرض وبعث بها الرسل.
وما زال الحال كذلك حتى هذا اليوم الذي مازالت تعبث فيه أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرهم في بلدان العالم وتتنافس عليها وعلى ثرواتها ومواقعها الإستراتيجية، وتتنافس على شعوبها بإبقائهم عبيداً لهم، وبجعل بلدانهم سوقاً استهلاكية مفتوحة لصناعاتهم وزراعاتهم وتجارتهم.
لقد زرعت العقيدة الإسلامية والفتوحات الإسلامية في العالم، أيام مجدها، أرقى المعارف وأسمى الأخلاق الفاضلة، وأرفع مراسم العدل والخير، عند من أسلم، وعند من لم يسلم، ونهضت العقيدة الإسلامية في العالم بكل الدول التي فتحتها، زراعياً وصناعياً وعمرانياً واجتماعيا وأخلاقياً، وعلمتهم معاني الخير وتطبيقاته، ونشرت فيهم مفاهيم القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية والمادية، وحفظت الأموال، وحقنت الدماء، وصانت الأعراض، ففرضت في كل أنحاء العالم سلاماً منقطع النظير، كونها الدولة العظمى التي تفرض الأعراف والمفاهيم والمقاييس بين الدول، حتى اندفع بعض الحكام الغير مسلمين إلى الإيمان برسالة الإسلام وتبنيه ليكون دين الدولة التي يحكم بها، فدخل ملايين الناس إلى دين الإسلام أفواجاً راضين مطمئنين.
في جانب الخير هذا المشرق تسببت العقيدة الرأسمالية الكفرية في الجانب الآخر حربين عالميتين شنيعتين أبادت فيها شعوباً وأقواماً، ودمرت فيها بلداناً، وحروباً أخرى فظيعة، و حروباً متفرقة هنا وهناك، وما زالت كذلك، وتسببت بالفقر لثلثي عالم الأرض، ولوثت به عقول الناس وأفكارهم وطريقة تفكيرهم وأعراف الخير عندهم كما لوثت البيئة بالأسلحة والنفايات النووية والكيميائية، ونشرت الرذيلة والشهوانية في كل أنحاء العالم، وأعزت به الذليل وأذلت به العزيز، واحتكرت الصناعات والزراعة والتجارة لنفسها، وحرمت منها باقي البلدان.
هذه هي العقائد وما تقرره من مفاهيم، وهذه المفاهيم وما تقرره من أعمال، فهي أساس صناعة حياة الإنسان وحاضره ومستقبله، فإن كانت كما تدلنا إليه الفطرة السليمة والعقل المستنير، وكما علمنا إياه الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فهي خير، وإن كانت العقيدة كما هي اليوم من فعل الإنسان ووساوس شياطينه، فهي شر مستطير، كما نراها ونسمعها ونعيشها في واقع العالم اليوم .
قال الله تعالى في سورة النساء 136
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا
وقال الله تعالى في سورة المائدة 82
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
وقال الله تعالى في سورة الممتحنة 2:
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ
http://dralturki.blogspot.com/2009/04/blog-post_23.html
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat