منذ عقود شكّل ملف المياه بين العراق وتركيا أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الثنائية, فالعراق الذي يعتمد بنسبة تتجاوز 70% على المياه القادمة من تركيا ظلّ يواجه انخفاضات حادّة في مناسيب نهري دجلة والفرات نتيجة المشاريع التركية العملاقة, ما أدّى إلى أزمات بيئية وزراعية واجتماعية خانقة، خصوصًا في المحافظات الجنوبية كذي قار والمثنى والبصرة, لكنّ توقيع الاتفاق الجديد بين البلدين فتح صفحة مختلفة عنوانها التعاون المائي وإن كان مشوبًا بميزان مصالح غير متكافئ.
أولاً: مكتسبات تركيا – نفوذ بغطاء التعاون
رغم أن الاتفاق جاء بلغة الشراكة والإدارة المشتركة إلا أن تركيا استطاعت أن تحقق جملة من المكاسب المهمة:-
1. شرعنة مشاريعها السابقة:- الاعتراف العراقي العملي بالسدود التركية وإنهاء لهجة الاعتراض يمنح أنقرة غطاءً قانونيًا وسياسيًا لاستمرار تشغيل منشآتها دون ضغط دولي.
2. استثمارات بضمان نفطي:- الشركات التركية حصلت على عقود طويلة الأمد لبناء سدود ومشاريع مائية داخل العراق، بتمويل مرتبط بعائدات النفط العراقي، أي ربح مضمون بلا مخاطرة مالية.
3. تعزيز الدور الفني والإداري:- تأسيس لجنة إدارة مشتركة يعني مشاركة تركية دائمة في القرار المائي العراقي، ما يرسّخ نفوذها الفني داخل مؤسسات الدولة العراقية.
4. مكسب سياسي وإقليمي:- أنقرة قدّمت نفسها من جديد كشريك لا خصم، وأعادت تموضعها في العراق بوجه منافسين إقليميين.
5. أمن الحدود والمشاريع:- المشاريع في شمال العراق تمنحها مبرراً لتواجد تقني وأمني مستمر ويعزّز مصالحها في المناطق الحدودية.
ثانياً: مكتسبات العراق – فرصة لتصحيح المسار المائي
رغم أن أنقرة خرجت بمكاسب كبيرة إلا أن العراق هو الآخر حصل على امتيازات يمكن أن تتحوّل إلى فرصة استراتيجية حقيقية إذا أُحسن توظيفها:-
1. زيادة مؤقتة في تدفق المياه:- تركيا وافقت على رفع التصريف إلى نحو 420 متر مكعب/ثانية خلال فترات الجفاف، وهي خطوة رمزية لكنها أول التزام كمي علني من الجانب التركي.
2. مشاريع بنية تحتية مضمونة التمويل:- الاتفاق يتضمن بناء ثلاثة سدود ومشاريع استصلاح أراضٍ داخل العراق، ما يعزز الأمن المائي والزراعي خاصة في المناطق المتضررة.
3. اعتراف تركي بحاجة العراق:- للمرة الأولى تعترف أنقرة رسمياً بأن العراق "بلد متضرر من التغيّر المناخي وشحّ المياه"، وهو مكسب سياسي وقانوني يمكن استثماره دولياً.
4. نقل الخبرات التقنية:- الاستفادة من التجربة التركية في إدارة السدود والريّ الحديث قد يسهم في تحديث المنظومة العراقية المتقادمة.
5. تحسين العلاقات السياسية:- الاتفاق أخرج ملف المياه من دائرة التوتر إلى مسار تفاوضي منتظم ما يُعدّ بداية لإعادة بناء الثقة بين البلدين.
ثالثاً: تأثير الاتفاق على العلاقات العراقية – التركية
يُمكن القول إن هذا الاتفاق أسّس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية، تتسم بـ التقاطع المتوازن لا الصدام, فالطرفان وصلا إلى قناعة بأنّ الماء أصبح قضية أمن قومي لا يمكن حسمها بالضغط فقط, تركيا أدركت أن الجفاف العراقي سينعكس عليها أمنيًا واقتصاديًا عبر الهجرة والفوضى الحدودية، بينما فهم العراق أن المواجهة السياسية وحدها لا تكفي دون مشاريع واقعية لإدارة الموارد.
مع ذلك، لا يمكن إغفال حقيقة أن الاتفاق منح أنقرة نفوذاً اقتصادياً وفنياً طويل الأمد داخل العراق، وأن النجاح الحقيقي للعراق سيُقاس بقدرته على تحويل التعاون إلى تنمية داخلية ملموسة لا إلى تبعية فنية جديدة.
الاتفاق المائي بين العراق وتركيا يمثل شراكة ضرورة أكثر من كونه شراكة متكافئة, فتركيا نجحت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بثوب التعاون، بينما كسب العراق نافذة أمل لمعالجة أزمته المائية عبر مشاريع ملموسة وتمويل مضمون, غير أن مستقبل هذا الاتفاق سيُحدّد على الأرض:-
هل سيُترجم إلى استصلاح الأراضي وإنقاذ الأهوار ودعم الزراعة؟ أم سيبقى نصوصاً جميلة تُستخدم لتلميع العلاقات دون أثر فعلي؟
الإجابة تتوقف على قدرة الدولة العراقية على المتابعة والمساءلة، والربط بين الاتفاق الوطني والحاجات المحلية خصوصًا في الجنوب، حيث يختبر المواطن يوميًا معنى "الأمن المائي" الحقيقي.


التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!