كتابات في الميزان
كتابات في الميزان

الخيانة كمرضٍ نفسيّ وعقدةٍ اجتماعية

الخيانة ليست فعلاً سياسيًا محضًا، ولا موقفًا أيديولوجيًا صرفًا، بل كثيرًا ما تكون عرضًا لأمراضٍ نفسيةٍ دفينة، وعقدٍ اجتماعيةٍ مزمنة، تدفع بصاحبها إلى الانفصال عن أهله، وكراهية قومه، والتبرؤ من وطنه، حتى إذا وجد نفسه في حضن العدو، استكان له واستظلّ بعباءته، وراح يبرر له كل ما لا يُبرَّر.

فالخائنُ، في جوهره، ليس شجاعًا ولا عقلانيًا، بل هشٌّ، مشروخٌ من الداخل، يحمل داخله تاريخًا من النبذ أو التهميش أو الشعور بالخذلان، وقد يتحول هذا التاريخ الشخصي إلى وقودٍ لصناعة الحقد، وإعادة توجيه الكراهية نحو الذات الجمعية التي نشأ فيها.

ليس كل خائنٍ مرتزقًا باحثًا عن مال، فبعضهم يبيع ذاته لا من أجل الجيوب، بل من أجل الجراح، تلك التي لم تلتئم، فنمت كالورم داخل قلبه، وتحولت إلى غضبٍ كامن، ثم إلى خيانةٍ فعليّة... ؛  وقد تُقنّع هذه الخيانة بألف قناع: ثوري، تنويري، معارض، تحرّري, وطني , عروبي , قومي , عقائدي , مسلم , وحدوي , ملحد , علماني , مثقف , لا منتمي ... الخ ؛  لكنها تظل في جوهرها عداءً مأزومًا للهوية الأصلية، واصطفافًا نفسانيًا لا واعيًا مع الضد النوعي لمكونه الاجتماعي او مع الاعداء والغرباء والاجانب .

في علم النفس، يُعرف هذا الميل بالـ "إسقاط المعاناة على الجماعة"، حيث يلجأ الفرد – حين يعجز عن مواجهة آلامه – إلى اتهام جماعته بأكملها: دينًا، قومًا، عشيرة، وطنًا ... ؛  ليُبرر شعوره الدفين بالخذلان والعجز... ؛  وهنا يولد نوعٌ من الانحراف في التقدير: حيث يُعاد تعريف "العدو" و"الصديق" بناءً على منح الاعتراف لا منطق الانتماء.

إن الخائن المصاب بعُقدة النقص، غالبًا ما يكون تائهًا في رحلة البحث عن "هوية بديلة" أو "أبٍ رمزي" يضمه ويعترف به، ولهذا تجده أكثر انجذابًا إلى صفوف الأعداء، ممن يمتلكون قوة التأثير أو المال أو الهيمنة، ويظن أن التحول إلى أدواتهم سيمنحه القيمة والاعتبار... ؛  لكنه، في حقيقة الأمر، لا يُعامل هناك سوى كخادمٍ مطيع، أو مرتزقٍ مستهلك، أو عميلٍ يُستخدم ثم يُرمى.

وقد عرف التاريخ العراقي – كغيره من المجتمعات – نماذج كثيرة من هؤلاء المرضى والخونة: أفرادًا منبوذين أو مهمشين، وجدوا في خيانة الجماعة تعويضًا داخليًا عن شعورهم بالنقص، أو انتقامًا رمزيًا من ماضٍ شخصي موجِع... ؛  فتراهم يُعادون قومهم بشراسة تفوق عداوة الغرباء والاجانب والاضداد ، ويُبالغون في تشويه هويتهم الأصلية، وكأنهم ينتقِمون من أنفسهم عبر جلد الآخرين.

أخطر ما في هذا النمط من الخيانة أنه لا يأتي من فراغٍ سياسي فقط، بل من فجوةٍ نفسية ومعرفية... ؛  فهؤلاء يجهلون تاريخهم، ويكرهون تراثهم، وينظرون إلى هويتهم من زاوية دونية، لا من موقع نقدٍ بناء... ؛  ولهذا فإن خيانتهم لا تتوقف عند حدود الرأي، بل تتحول إلى مشروع تدميري للذات الجمعية : يهلّلون للاحتلال، ويباركون التدخلات الأجنبية، ويسخرون من مقاومة شعوبهم، ويمتدحون الطغاة طالما كانوا أعداءً لقومهم وابناء جلدتهم .

وما يزيد الأمر سوءًا، هو أن بعضهم يصل إلى السلطة أو الإعلام أو المنابر الأكاديمية، فيلبس ثوب المثقف أو المعارض أو الباحث، لكنه في حقيقته ليس سوى مأزومٍ داخلي، متضخمٍ بالغرور، يحركه شعورٌ مزمن بالرفض أو الفقدان.

ولعل المفارقة الأشد إيلامًا، أن العدو نفسه، الذي يدعونه "المنقذ" أو "المتحضّر"، لا يثق بهم، ولا يحترمهم، ولا يمنحهم مكانًا متساويًا، بل يستخدمهم ببرودٍ كمجرد أدوات وظيفية... ؛  فـ"الخائن والدوني " في عُرف السياسة والاستخبارات هو أكثر من يُستَعمل، وأقل من يُحتَرَم.

إن عقدة "الخيانة المضادة" – كما يسميها بعض علماء النفس – قد تنشأ لدى الفرد حين يتعرض لظلم شديد أو خيانة من أقرب الناس إليه، فينقلب حبه المنكسر إلى نقمة شاملة، تعمي بصيرته وتجرّه إلى حضن الأضداد، متوهّمًا أنهم الملاذ والشفاء، لكنه يسقط هناك في فخ الاستغلال النفسي، والاستهلاك الأخلاقي.

*الخلاصة:

الخيانة ليست دومًا فعلًا عقلانيًا، بل كثيرًا ما تكون نتيجةً لاضطرابٍ نفسي، وتشوهٍ اجتماعي، وانكسارٍ داخلي دفين.

وما لم تُفهم جذور هذه الظاهرة – النفسية والاجتماعية والسياسية – سنبقى نعيد إنتاج الخونة، كما نعيد نسيان الشهداء.

الخيانة_النفاق.jpg

 

التعليقات

لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!