صفحة الكاتب : رياض سعد

حين يتنفس الحزن من رئة الوجود
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

طالما راودتني حالات من ضيقٍ مباغتٍ غامضٍ ، وكآبةٍ لا ملامح لها  , تتسلّل إلى صدري كلما أوشكت الشمس على الرحيل وحل الغروب ؛ لحظات الغروب كانت دائمًا تحمل لي شيئًا من الفقد، كأنّ النهار يجرّ معه ما تبقّى من دفء العالم، ويتركني وحيدًا أمام ليلٍ لا يجيب ... ؛ . لم أجد لذلك سببًا واضحًا، لا مأساة محددة، ولا ذكرى تستحق هذا الكم من الوجع، و لا جرح ظاهر، ولا حادثٍ يدعو للحزن، ومع ذلك كنت أختنق ببطء، كأنّ هناك يدًا خفية تضغط على روحي لا على صدري... ؛ فكلما أقبل المساء بوشاحه البنفسجي، تهاوت أنفاسي كأنّ الكون ضاق ذرعًا بي، أو كأنّ روحي تتذكّر فجأةً شيئًا نسيه الجسد منذ زمن بعيد.

تكرّر ذلك الشعور معي سنين طويلة، حتى صار الغروب موعدًا مؤجلًا للحزن، يطرق بابي دون استئذان... ؛  حاولت أن أبحث عن تفسيرٍ لهذه الحالة التي تلتهمني ببطءٍ كل مساء، فكما يقول الحكماء : معرفة الداء نصف الدواء... ؛  نعم سنوات وأنا أبحث عن تفسيرٍ لهذا الضيق الغريب الذي يزورني كل مساء، وبينما أنا أتتبّع خيوط هذا الإحساس الغامض، وقعت عيني على حديثٍ منسوبٍ إلى الإمام علي بن موسى الرضا ؛ مفاده : أنّ الأرواح واحدة، فإذا تألم مؤمنٌ في المشرق تأذّى له مؤمنٌ في المغرب ... ؛ لم أبحث في السند، فالمعنى وحده كان كافيًا ليوقظ فيّ شيئًا نائمًا: لعلّ ما نشعر به ليس لنا وحدنا، بل هو صدى لأنينٍ إنسانيٍّ واسعٍ يعبر الأثير، ويتسلّل إلى صدورنا من دون أن نعي مصدره... ؛ نعم وبغضّ النظر عن صحة السند ودلالة الحديث ، فإنّ في المعنى صدقًا يهزّ القلب... ؛  فلعلّ الأرواح ليست جزرًا منفصلة، بل محيطٌ واحدٌ تتداخل فيه الأمواج... ؛  وقد يكون ما نحسّه من ضيقٍ مفاجئٍ هو صدى لأنينٍ بعيد، يصلنا من روحٍ تئنّ في مكانٍ آخر من هذا العالم الكبير.

ولأنّني شديد الحساسية، أتألم لما يصيب الناس من أذى، وأحزن لحزنهم، فقد وجدت في هذا القول عزاءً مؤقتًا... ؛  لكنّ علم النفس لم يدع لي فرصةً للاحتماء بالغيب، فسرعان ما جاء ليقدّم تفسيرًا آخر: اضطراب في كيمياء الدماغ، اكتئاب موسمي، احتراق نفسي، أو خلل في المزاج الدوري , اضطراباتٍ عاطفيةٍ دفينة، أو تقلباتٍ مزاجيةٍ موسمية، أو إرهاقٍ عصبيٍّ لا يعلن عن نفسه إلا حين تسكن الأصوات من حولنا ... ؛  تفسيرات دقيقة، لكنها باردة، كأنها تحاول أن تُخضع الوجدان لمعادلاتٍ ميكانيكية لا تعرف الدموع.

أما المشتغلون بالروحانيات، فلكلٍّ منهم طريقته في تفسير هذا الشعور الداخلي: منهم من يردّه إلى الحسد، ومنهم من يعزوه إلى القرين أو السحر أو الطاقات الكونية المتضاربة... ؛ أو الطاقات السلبية العالقة بجسد الإنسان... .

 وبين هذا وذاك، يظلّ الشعور نفسه: ثقل في القلب لا يُفسَّر، وحنين إلى شيءٍ لا اسم له، ووجعٌ يشبه ذاكرةً غاب عنها الزمان والمكان.

نعم قد تتعدد الأسباب، لكن الشعور واحد: ضيقٌ لا يُرى، ووجعٌ بلا جرح، وحزنٌ لا يعرف وجهته... ؛  وربما – من منظورٍ سرياليٍّ أعمق – ليست هذه الحالات والنوبات  إلا رسائل من الوجود ذاته، تذكّرنا بأنّنا لسنا أبناء الصدفة , ولا نمت بأية صلة لهذا الكوكب الكئيب ، بل زوّارٌ مؤقتون في عالمٍ غريبٍ عن أرواحنا وجذورنا ... ؛ نعم ربما، في عمق هذا الضيق، يكمن سرّ الوجود الإنساني ذاته... ؛  فكما أنّ الجسد حين ترتفع حرارته يعلن عن خللٍ خفيٍّ في داخله، كذلك الروح حين تضيق وتكتئب بلا سبب، لعلّها تُذكّرنا بأننا لسنا من هنا تمامًا، بأننا نعيش على هامش كونٍ لا يخصّنا إلا مؤقتًا، وبأنّ جذورنا مغروسة في عالمٍ آخر أكثر نقاءً وأشدّ وحدة... ؛ فكما أنّ الحمى تُنذر بمرضٍ في الجسد، فإنّ هذا الضيق العابر قد يكون نداءً خفيًّا من العوالم التي جئنا منها، تذكيرًا بالمكان الذي سنعود إليه ذات مساءٍ آخر، عندما يكتمل الغروب الأخير.

فما أشبه لحظات الكآبة بلحظات الوعي الخالص، إذ لا يزورنا الحزن إلا حين نحسّ بحقيقة وجودنا المؤقت، وحين ندرك أنّ وراء هذا العالم المزدحم بالضجيج والضوء، ثمّة صمتٌ عظيم ينتظرنا جميعًا.

لقد قال نيتشه إنّ "الإنسان جسر لا غاية"، وكأنّ هذا الضيق الذي يعترينا هو رجفة العبور بين الضفتين: بين حياةٍ نحياها مجبرين، وموتٍ ينتظرنا بصبرٍ عميق. وقال كافكا إنّ "الحزن شكل من أشكال الدفاع عن النفس"، وربما كان هذا ما يحدث تمامًا؛ فكلما اقتربنا من الحقيقة، أوجعتنا أكثر، فاحتمينا بالحزن لنستطيع الاستمرار.

إنّ هذا الشعور العابر الذي يأتينا مع الغروب قد لا يكون مرضًا ولا لعنة، بل رسالة من الوجود نفسه: تذكيرٌ بأنّ الضوء إلى زوال، وأنّ الحياة – مهما بدت طويلة – ليست سوى ومضةٍ في ليلٍ سرمديّ... ؛  وربما لهذا، حين يحلّ المساء وتغيب الشمس، نشعر بأنّنا نحن من يغيب معها شيئًا فشيئًا، تاركين خلفنا في كلّ غروبٍ جزءًا منّا لا يعود.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/10/22



كتابة تعليق لموضوع : حين يتنفس الحزن من رئة الوجود
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net