منذ يومين وأنا أتابع الضجة التي أثارها افتتاح وكالة “كيان” السعودية في العراق. إعلان بسيط، تظهر فيه فتاة بوجه مشرق وابتسامة طفولية وهي تقول بحماس: "أخيراً صار بإمكاني أن أطلب العصير وأنا في السيارة." للوهلة الأولى ابتسمت لفرحتها العفوية، لكن سرعان ما اجتاحني شعور بالغصة. ألهذا الحد أصبح سقف أحلام العراقي؟ أن يتحول طلب كوب عصير من نافذة السيارة إلى منجز يثير الدهشة ويحتفل به!؟
كم هو موجع أن يصبح ما يعتبر في دول أخرى خدمة اعتيادية لا تثير الانتباه، حلماً مبهراً هنا. الأكثر إيلاماً أن طريقة الطلب لم تكن عبر أجهزة حديثة كما هو الحال في دول الخليج، بل عبر موظف عراقي يقف ممسكاً بجهاز لوحي يسجل الطلبات. مشهد صغير لكنه يعكس هشاشة بيئة الاستثمار لدينا، وكأن المستثمر يخشى وضع جهاز إلكتروني في الشارع. هنا تتجلى المفارقة بوضوح، فرح صادق بخدمة بسيطة يقابله واقع مرتبك لا يليق بتاريخ العراق ولا بإمكانات شبابه
لقد أدركت أن افتتاح "كيان" لم يكن حدثاً تجارياً عابراً، بل رسالة عميقة قرأها كل عراقي بطريقته، كان مرآة عكست وجهين متناقضين، وجه الفرح الشعبي الذي يتشبث بأي نسمة تغيير مهما كانت صغيرة ووجه الحزن من محدودية التطلعات حين يصبح أبسط حق في الحياة ترفاً
المؤلم أن العراقي الذي كان يتطلع إلى وطن مزدهر، آمن ومستقر، بات يكتفي بأن يحلم بخدمة عادية كطلب عصير من السيارة. هذا الانحدار في سقف الأحلام ليس دليلاً على رضا، بل على استنزاف طويل على سنوات ثقيلة جعلت الناس يتمسكون بأي لحظة فرح عابرة
ومع ذلك، فإن هذه الغصة التي نشعر بها ليست سوى برهان على أن في الداخل توقاً لما هو أعظم. لو لم يكن العراقي يتطلع إلى أكثر، لما شعر بالخذلان من قلة الإنجاز. نحن نستحق ما هو أبعد من عصير عبر نافذة، نستحق أن تكون أحلامنا بارتفاع دجلة والفرات، وأن يكون سقف طموحاتنا سماءً مفتوحة لا جداراً قصيراً يوقفنا عند حدود خدمة متواضعة.
قد يبدو الفرح اليوم بسيطاً، لكنه يفتح نافذة للتأمل. فالأمل لم يمت، وما زال ممكناً أن نعيد للعراقي حقه الطبيعي في الحلم الكبير. كل ما نحتاجه هو أن نرفع رؤوسنا قليلاً ونصدق أن الفرح الحقيقي ليس بكوب عصير، بل بكرامة تصان، وحرية تحترم، وحياة كريمة يعيشها كل عراقي في وطنه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat