آيات في المنهجيّة الحضاريّة في القرآن الكریم للكاتبة سليماني (ح 5) (العدل والأمانة، الذكاء الثقافي)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

جاء في بحث المنهجيّة الحضاريّة في القرآن الكریم في مجلة أوراق ثقافية للكاتبة زهرا سليماني: إقامة العدل: لا شكّ أن العدل والإحسان لیسا إلا لاجتناب الظلم والجور، لأنّ الحكام الظالمین لیسوا حقیقین بالحكومة من المنظور القرآني أصلًا، أضف إلی ذلك، أنّه من الضّروريّ أن یتخلّص النّاس من شرّهم، وتقام حكومة عادلة بالكفاح ضدّهم، ولذلك عندما یذكر معیار الاجتناب عن الظلم والجور، یعنی التأكید علی أمر سمّي بالعدل. في ضوء التعلیمات القرآنيّة، لا یجوز الحكم للحاكم الظالم، ويجب علی أبناء الأمّة أن یناضلوه ویطیحوا به "قَالُوا يَا أَيُّهَا العَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79)" (یوسف 78-79). یبدو أنّ مفاهيم كالعدل والاجتناب عن الظلم یتشابهان في المعنی والدلالة، لأنّ العدل یدلّ علی الرّغبة عن الانحراف وعلی وضع الشيء مواضعه، وأنّ كان داوودعليه السلام نبیًّا عادلًا إذ استشهد الإمام علي عليه السلام والآخرین من أولیاء الله بقضایاه في قضایاهم وأحكامهم. قال الله تعالی: "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكمْ بَيْنَ النّاس بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى" (ص 26). من القضایا التي قام بها داوود عليه السلام لإقامة العدل، كانت قضاوته المشتركة مع ابنه سلیمان عليه السلام بین راعٍ للغنم وفلّاح أضرّ الغنم حرثه، عندئذٍ كان سلیمان یافعًا (الطبرسي، 1372، ج7، ص79).
وعن الائتمان والأمانة تقول الكاتبة سليماني في بحثها: عندما دخل موسی منطقة المدین، وساعد الامرأتين اللتين عجزتا عن سقي غنمهما. یحلو لنا استماع وصف بنت شعیب عليه السلام لموسی عليه السلام عن لسان القرآن: "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" (القصص 26). بصرف النظر عن الفوائد الكثیرة لهذه الواقعة حول القضایا الاجتماعيّة، یمكن الإشارة إلی میزتین للمصلحین الاجتماعیین وهما: القوّة والأمانة. كان غرض موسی عليه السلام وراء مساعدته لابنتيّ شعیب عليه السلام، مساعدة الضعفاء أمام الأقوياء عند السّقي. هنا وجد موسی عليه السلام نفسَه قادرًا علی مساعدة ضعفاء المجتمع ففعل، من جهة أخری كان هؤلاء الضّعفاء محتاجین إلی الأمان، لأنّ النّساء مستضعفات إزاء الرجال، ویعدُّون حرمة المجتمع فیجب أن تحفظ كأمانة، وأدّی موسی عليه السلام الأمانة بأحسن وجه عند رؤیتهما، ومصاحبتهما حتی الوصول إلی بیت شعیب عليه السلام.
وعن التّمتع بالذكاء الثّقافيّ في نشر الدّین تقول الكاتبة زهرا سليماني: كان منهج یوسف عليه السلام في نشر الدّین التّوحیديّ مبنيًا علی الاهتمام بقدرات شعبه النفسانية وخصائصهم. لم یتّبع یوسف عليه السلام السیاسة التّدريجيّة في صعيد تبیین العقائد فقط، بل اتّبعها الأنبیاء الآخرون. تمكن یوسف عليه السلام من خلق الاستعداد الفكري عند النّاس لقَبول التوحید طوال تولّیه اقتصاد مصر أربع عشرة سنة، وتنظیمه شؤون المعاش. ظهرت الرؤی المشتركة عندما قَبِلَ عدد قلیل دعوته، وأدّی إلی الوحدة السیاسیّة والثقافيّة، وقد اهتمّ یوسف عليه السلام بقدرات النّاس الفكريّة والنّفسانيّة اهتمامًا كاملًا، ولائم بین محتوی دعوته، وبین السّیاق الاجتماعيّ، ولذلك لم یقم بموعظة البلاط في البداية، بل تناول التّعدیلات الاقتصاديّة، وتطرق إلی نشر الدّیانة التّوحيديّة في مسیرة إصلاح الشّؤون الاقتصاديّة. سبّب هذا المنهج أن لا یتفرّق، ویتشتّت المجتمع، ویحافظ علی وحدته السّابقة إلی حدّ ما. لمّا رأی فرعون معجزات موسی عليه السلام، أحضر السّحرة. أما موسی عليه السلام فنهض بهذه الفرصة في تبلیغ شریعته ودینه. أضف إلی ذلك، كانت معجزات موسیعليه السلام ملائمة لما كان سائدًا بین النّاس عصرئذٍ من الموضوعات والقضايا، وجذبت أذهانهم وضمائرهم إلیه (بیومی مهران، 1383، ج 2، ص 193 و194)، وكان ینبع هذا الإنجاز من ذكائه الثّقافيّ في تعاطیه مع النّاس. سبق لنا وقلنا إنّه في قصة قوم سبإ أن ملكتهم كانت متمتعة بالنعم المتعدّدة "إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ" (النمل 23)، وفي هذه الواقعة یمكننا أن نری ذكاء الحكومة الدّينيّة، والقوّة، وسرعة الإنجاز في العلاقات الخارجيّة، والاهتمام بالتّطور العلميّ، والاقتصاديّ، ويُعبّر الیوم عن هذا الذّكاء بالذّكاء الثّقافيّ في علم الهندسة الثقافيّة. نری ظهور هذا الذكاء في إنجازات سلیمان عليه السلام كوالٍ ثقافيّ. إنّ المؤشر الأول: الذي يلفت النظر في منهج سلیمان عليه السلام هو في إحضار بلقیس، وصرحها عنده في طرفةَ عین "قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" (النمل 40). اعتقد المفسرین أن سلیمان عليه السلام قصد من وارء ذلك أن يریها القدرة المعجزة التي أعطاها الله تعالی، وأراد بذلك أن یخبرهم علی القدرة والعظمةالإلهية (بيوميمهران، 1383، ج 3، ص 133)، إنّ المؤشر الثاني: هو ابتكار سلیمان في مواجهته مع سریرة بلقیس وتغییرها "قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ" (النمل 41)، والمؤشر الثالث: هو إعجاب ملكة سبإ بعظمة صرح سلیمانعليه السلام ودقّته، وما واجهت مع صرح زجاجيّ عدّته لجّة وكشفت عن ساقیها "قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ" (النمل 44)، وآمنت بالله بعد رؤیة هذه العجائب، وبذلك نجح سلیمان عليه السلام في نشر الدّیانة التّوحيديّة في ذلك البلد. وكذلك كانت سیاسة رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم في الدّعوة إلی الإسلام مبنية علی تأسیس الأمة الواحدة وملائمة معها "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ" (یوسف 108). یبدو من منهج رسول الله عليه السلام في دعوته الفكريّة أنّه اعتنی بقدرات النّاس النّفسانیّة والفكرية، ونظّم محتوی دعوته وفقًا لها لكي يوفّر بذلك الظروف، لتلقي رسالته من قِبَل جمیع النّاس. أضف إلی أنّه قد بنی أساس الوحدة الثقافيّة والسیاسية. وهكذا، لا شكّ في أن الالتزام بمبدأ التّدرج في الهدایة، والرّسالة یجب دراسته في هذا الصّدد. كانت السّیاسة التّدريجيّة تنفّذ في مجال تبیین العقائد، والأحكام، والفروع الدينية، ما أُنزلت الآیات المتعلقة بمبادئ الكونيّة، كالتّوحید، والنّبوّة، والمعاد في حِقبة استغرقت عشر سنوات في مكّة، ثمّ أنزلت آیات الأحكام في المدينة "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً" (الإسراء 106). لم یشمل مبدأ التدرّج عرض محتوی الدعوة، وإلقائها فقط، بل یشمل مناهج دعوته وكیفیته.
وعن المجتمع المثالي تقول الكاتبة سليماني في بحثها: من وراء بناء مجتمع مثاليّ للإنسان، یقدّم القرآن الكریم تعلیمات في صورة الأحكام الدّينيّة، والشّؤون الأخری التي تتعلّق بتطور المجتمع، ما يهدي الاهتمام بها المجتمع خطوة بعد خطوة إلی بناء الحضارة الإلهية. لذلك یمكن تقسیم مؤشّرات الحضارة من المنظور القرآني إلی قسمين: المؤشرات الإنسانيّة، والمؤشرات غیر الإنسانيّة، والأولی هي: الإیمان "وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ" (التوبة 12)، والأخلاق "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ" (آلعمران 159)، والعلم "عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق 5)، والعدل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً" (النساء 58)، و، أما الثانية فهي: الأرض "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (الأعراف 128)، والمطر "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)" (لقمان 34)، والماء "لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)" (سبأ 15-16)، والزّراعة "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)" (یوسف 46-49)، والصناعة "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ" (الأنبیاء 80)، و إنّ الغایة من بناء الحضارة هي سعادة الإنسان في الدّنیا والآخرة، ولا تتمكّن حضارة من الوصول إلی هذه الغایة إلا أن تكون مبنية علی التعلیمات الإلهيّة. إنّ الأنبياء عليهم السلام بنوا التاریخ، ولم یتأثّروا به، وكانت أهدافهم ولا تزال إقامة المجتمع المثاليّ الحقيقيّ.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat