الأمن المائي في العراق بين مأزق الجغرافيا وأزمة السياسة
كتابات في الميزان / الأمن المائي في العراق ليس مشكلة طبيعية فقط، بل أزمة مركبة تجمع بين الجغرافيا والسياسة. فتركيا باعتبارها دولة منبع تمتلك أوراق قوة تتحكم من طريقها في مصير ملايين العراقيين، بينما يفتقر العراق إلى سياسة خارجية صلبة وأدوات ضغط فعّالة.
تتزايد المخاوف في العراق، يوماً بعد آخر، بسبب تفاقم أزمة المياه، في ظل استمرار انخفاض الإيرادات المائية من دول المنبع، وتحديداً تركيا، التي تتحكم بشكل مباشر في تدفق المياه عبر نهري دجلة والفرات، هذه الأزمة المستمرة باتت تهدد الأمن المائي والغذائي للعراق، وتفرض على الجهات المختصة، البحث عن حلول جذرية وعملية، للخروج من دائرة الخطر المائي.
ومن بين أبرز الطروحات التي تعود إلى الواجهة بقوة في الوقت الراهن بواسطة دعوات نيابية وأوساط شعبية، هو استخدام الملف الاقتصادي كورقة ضغط دبلوماسية في مواجهة الموقف التركي، بهدف دفعه إلى الالتزام بتأمين حصة العراق المائية، في ظل اعتقاد تام بأن أدوات الحوار التقليدية، لم تحقق نتائج ملموسة طوال السنوات الماضية.
تركيا، باعتبارها دولة المنبع، تتحكم في مسار المياه المتدفقة إلى العراق بواسطة سلسلة من السدود والمشاريع المائية العملاقة، أبرزها سد اليسو الذي ألحق أضراراً بالغة بمخزون العراق المائي، خاصة في نهر دجلة.
هذه السياسات المائية، انعكست سلباً على الزراعة والبيئة ومصادر الشرب، فضلاً عن تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما في المحافظات الجنوبية والوسطى التي تعتمد بشكل رئيسٍ على المياه السطحية للري وسد الاحتياجات اليومية.
الضغط الاقتصادي
وأكد مراقبون، ان الضغط الاقتصادي قد يكون من الأوراق المطروحة التي يمكن للعراق استخدامها في هذا الملف الحساس، فتركيا ترتبط بعلاقات تجارية كبيرة مع العراق، حيث يعد السوق العراقي من أكبر الأسواق المستوردة للمنتجات التركية في المنطقة، إذ تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين البلدين، عشرات المليارات من الدولارات سنوياً، وهذا الرقم مؤشر واضح على حجم المصالح الاقتصادية التي يمكن أن يستخدمها العراق، للضغط باتجاه تحقيق مكاسب مائية.
وأشاروا الى أن العراق يمتلك خيارات واقعية في هذا الإطار، من بينها تقليص الاستيراد من تركيا لمصلحة دول بديلة، أو فرض رسوم إضافية على البضائع التركية، أو حتى إيقاف بعض المشاريع الاستثمارية المشتركة كوسيلة للضغط السياسي والاقتصادي، إلا أن نجاح هذا النهج، يتطلب إرادة سياسية قوية، وتنسيقاً عالي المستوى بين مؤسسات الدولة المختلفة.
وفي المقابل، لا تزال الحوارات مع الجانب التركي مستمرة، وفقاً لمصادر برلمانية، حيث تبذل بغداد، جهوداً للوصول إلى تفاهمات تضمن تدفقاً مائياً عادلاً ومتوازناً، وفقاً للاتفاقيات الدولية والمعايير الإنسانية، ولكن مع بطء تلك المفاوضات وعدم التزام أنقرة بتقديم ضمانات طويلة الأمد، تبرز الحاجة إلى تنويع أدوات التفاوض والضغط، بما في ذلك استخدام الورقة الاقتصادية.
وأكد مختصون، ان الملف المائي لم يعد قضية تخص الزراعة فقط، بل أصبح تهديداً مباشراً للأمن الوطني، فالهجرة من الأرياف إلى المدن، ارتفعت بشكل واضح بسبب الجفاف، وانخفضت معدلات الإنتاج الزراعي، وتعرضت الثروة الحيوانية لخسائر كبيرة نتيجة شح المياه وانتشار الأمراض المرتبطة بها.
مكاسب سياسية واقتصادية
بدوره، أكد عضو لجنة الزرعة النيابية ثائر مخيف أن “تركيا تسعى لاستغلال العراق لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية متعددة، عبر التحكم بورقة المياه واستخدامها أداة ضغط مستمرة، دون أي التزام حقيقي بالاتفاقات الدولية أو مراعاة لحقوق العراق المائية.”
وأوضح مخيف، أن “هذا السلوك التركي تسبب في أضرار جسيمة داخل العراق، لاسيما في القطاع الزراعي، حيث تضررت مساحات واسعة من الأراضي المزروعة، بسبب انخفاض منسوب المياه، إلى جانب تأثر الثروة الحيوانية بشكل مباشر نتيجة الجفاف وشح المياه، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الهلاك وتراجع الإنتاج المحلي في العديد من المحافظات”.
وانتقد النائب في معرض حديثه، موقف الحكومة العراقية، واصفاً إياه بـ”الضعيف وغير الفاعل”، مشيراً إلى أن “العراق يمتلك العديد من الأدوات التي تمكنه من الرد على هذه الانتهاكات، لكن حتى الآن لم يتم تفعيل أي من تلك الأدوات بالشكل المطلوب”، ولفت إلى أن “الورقة الاقتصادية تمثل إحدى أبرز وسائل الضغط الممكنة، نظراً لحجم التبادل التجاري الكبير بين البلدين واعتماد تركيا على السوق العراقي في تصريف جزء كبير من منتجاتها”.
وفي ظل استمرار أزمة المياه وتفاقم آثارها على الزراعة والبيئة والاقتصاد، لم يعد الصمت أو الانتظار، خياراً مجدياً، والعراق يقف اليوم أمام مَفرِقِ طرق يتطلب منه، إعادة ترتيب أولوياته في التعامل مع أنقرة، بما يضمن حقوقه المائية ويحفظ أمنه الغذائي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat