آيات في المنهجيّة الحضاريّة في القرآن الكریم للكاتبة سليماني (ح 1) (الحكومة، الايمان والتوحيد)
د . فاضل حسن شريف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . فاضل حسن شريف

جاء في بحث المنهجيّة الحضاريّة في القرآن الكریم في مجلة أوراق ثقافية للكاتبة زهرا سليماني: إنّ القرآن كتاب الهدایة والتّاريخ، والتّاريخ ذُكر فیه كأداة للاعتبار والهدایة، فتتناول ثُلُث آیاته التاریخ البشري، على الرّغم من أنّه لم ينزل لذكر التّاريخ البشريّ. يصوّر القرآن تاریخ الأنبياء، والأمم والملوك كألواح من جديد ما یجسّمها كأنّها تحدث الآن ویحثّ النّاس في كثیر منها، علی مشاهدتها كوقائع تاريخيّة حیّة بتعابير ك "أَ لَمْ تَرَ"، كما قال سبحانه: "أَلَمْ تَرَ كيْفَ فَعَلَ رَبُّك بِعَاد" (الفجر 6).
وعن الحضاريّة (بناء الحضارة) تقول الكاتبة سليماني في بحثها: برامج استراتيجيّة لتنظیم الأنظمة السیاسیّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة لبناء حضارة جديدة (منتظر القائم، 1391، ص 172). وقد اهتمّ القرآن بأنشطة الأنبیاء اهتمامًا خاصًّا، ووصفهم كحكام ربانيّين في الأرض، كذلك هناك إشارات إلی أنشطة الأنبياء في العهد القديم، من المُسَلَّم به أنّ العهد القديم لا یمكن الاعتماد علیه من حیث المصداقية، والوثاقة، والمحتوی من أجل تعرضه للتّحريف، مع ذلك، یری الإسلام أنّ هناك آثارًا من توراة موسی عليه السلام بقيت، ویمكننا أن نجدها في كتاب الیهود، إذ إنّهم حفظوا أجزاء من التوراة ونسوا أجزاءها الأخری، بعبارة أخری لم يحفظوها جمیعها. وقد قال الله تعالی: "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كثِيراً" (الأنعام 91). نهدف من وارء ذكر التوراة أن يطّلع القارئ علی وجهة نظرها في ما يتعلق بأنبياء بني إسرائیل وحكامهم، وعلى الرّغم من أنّنا نوافقهم في بعض من القضایا، ألّا أنّنا نخالفهم في كثیر منها وخصوصًا في ما يتعلق بعصمة الأنبیاء. ولكن نظرًا إلى عنوان البحث، یجب الاهتمام بالعهد القدیم، والاستفادة منه كمصدر أصليّ إلی جانب القرآن الكريم؛ لأنّه قد يقدّم صورًا واضحة عن بعض الوقائع االتّاریخيّة للأنبیاء. انطلاقًا من ذلك، يجب علی المؤرخين المسلمين أن يعيدوا النّظر في منزلتهم الحقيقيّة في ما يتعلق بدراسة القضایا التّاريخيّة من منظور الكتب المقدّسة.
وعن تأسيس الحكومة والمجتمع تقول الكاتبة زهرا سليماني: قال بعض المفكرين الدّينيّين: إنّ الدين هو الذي أكد تأسیس الحكومة والمجتمع لأول مرّة (الطباطبايي، 1415، ج 7، ذيل آية 200 سورة آل عمران "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران 200)). وفقًا لما جاء في القرآن والتّاريخ (الدر، 1335، ص74 وآلبرایت، 1971، ص 128)، إنّ خمسة أنبیاء كبار إلهيين أي یوسف، وموسی، وداوود، وسلیمان علیهم السلام، ونبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاموا بتأسیس الحكومة كركن من الأركان الأصليّة للحضارة. ولذلك، من الواجب أن يطرح سلوكهم في الحكوميّة والحضاريّة كأنماط منهجية في الحضاريات القرآنيّة، كما جاء في القرآن الكريم: "قدْ كانَتْ لَكمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ" (الممتحنة 4)؛ ذلك أنّ القرآن یشير إلی حضارية إبراهيم عليه السلام، وبنائه الكعبة، وبنائه حضارة كبیرة إلهية، وإقامته معقلًا عظیمًا لهدایة البشر. كما قال الله تعالی: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ" (البقرة 127). بعد إعادة بناء الكعبة، رفع إبراهيم وإسماعیل عليهما السلام أیديهما للدّعاء، وطلبا من الله سبحانه: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكتَابَ وَالْحِكمَةَ وَيُزَكيهِمْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ" (البقرة 129). علی ذلك، إنّ معرفة واحد من مناهج القرآن في مسار الحضاريّة، أي ما قام البحث الحالي بدراسته من الخصائص الشّخصيّة، والشّخصیاتيّة، والإداريّة للولاة الحضاريين، تتیح المجال لعرض أنموذج من منهج الحضاريّة القرآنيّة.
وعن الإیمان والتّوحيد تقول الكاتبة سليماني في بحثها: من أكثر القضایا أهمّيّة على صعيد الرؤية ووجهة النّظر، یمكن الإشارة إلی قضیة الإیمان والتّوحيد التي لها دور محوري في جميع التعليمات القرآنيّة، وبها تكسب القضایا الأخری معانیها. یذكر الله سبحانه هذه القضیة وظروفها مباشرة في الآیات الآتية: "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا" (النساء 141)، و " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا" (النساء 144)، و "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55)، و "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ " (المائدة 59) و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (المائدة 57) و "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (النور 56). وعندما يذكر الله سبحانه وتعالی حكم یوسف، یؤكد أنّه أوتي الحكم جزاءً لإیمانه، لكي یبیّن أنّ هناك علاقة بین الإیمان، والحكم، والحضارة. يتجلی الإیمان بالله تعالی في وجوه متعدّدة؛ ما یمكن من الإشارة إلی قضية العبوديّة المخلصة (الأنبياء 105) الذي یتمثّل بشكل التقوی في الأصعدة الشّخصيّة والاجتماعيّة "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (الأعراف 128)، و "وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)" (یوسف 56-57) والقیام بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة المحمودة "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور 55)، وإقامة الصلاة (المائدة 55). وبعبارة أخری تتجلی هذه القضيّة وتتحقق وجوديًا في الطاعة التامّة الكاملة لله تعالی. إنّ ما قام به یوسف عليه السلام في السّجن من تبلیغ الدّین، ودعوة أصحابه المساجين إلی التّوحید خطوة بعد خطوة، شيء لم يذكر إلّا في القرآن، ولم تنقل التّوراة عنه شیئًا (بيومي مهران، 1383، ج 3، ص 53 – 54). قال یوسف عليه السلام: "إِنِّي تَرَكتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاس وَلٰكنَّ أَكثَرَ النّاس لاَ يَشْكرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكمُ إِلاَّ لِله أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلٰكنَّ أَكثَرَ النّاس لاَ يَعْلَمُونَ" (یوسف 37-40). كذلك قام داوودعليه السلام بتظیم القواعد التّوحيدية، وبنی حكمًا عادلًا ممزوجًا بالحكمة، كما قال الله تعالی عن حكمه: "وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ" (البقرة 251). قام سلیمان عليه السلام بنشر الثقافة التّوحيديّة بما له من القدرات الكثيرة، كان بسط العدل، والاعتمار، وخصوصًا تبلیغ الثقافة التّوحيدية برنامجه الأصلي في جميع المدن والبلاد التي فتحها، وتعدّ قصة ملكة سبأ ودعوته إیّاها إلی قَبول الدّين التّوحيديّ من أكثر مصاديق تبلیغه ودعوته أهمّيّة " فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)" (النحل 29-31)، كذلك كان منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشر الإسلام لتربية إنسان جدید "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل 125)، إذ تحلُّ في هذا النّظام العقائديِّ قِيَمٌ ومبادئُ مكان قیمٍ ومبادئَ أخری، بما فیها: التوحید مكان الشِّرك، والمسؤوليّة مكان عدم المسؤوليّة، والنّبوّة والزّعامة الإلهيّة مكان الشّيخوخة والقَبَليّة، والسّعي، والإنتاج، والملكيّة مكان السّرقة، والنهب، والكسالة و (روشه، 1380، ص 130).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat