صفحة الكاتب : رياض سعد

ثنائية الدين والوطن - الازدواجية المقدَّسة: تناقض الأصوليات في تشريح مفهوم الوطن
رياض سعد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

*العقيدة حين تُدَنِّس الوطن: بين أصولية التربة الطاهرة والتربة العفنة

في عالم مأزوم بالانتماءات المتناسخة، تصبح الأرض مجرد عرض جانبي في مسرح الطاعة العمياء... ؛ فالوطن عند الأصوليات ليس شيئًا يُعاش ويُحمى ويعشق ، بل مجرد حفنة من تراب "عَفِن" لا قيمة لها إلا بقدر ما تسمح به فتوى الولاء العابرة للحدود... ؛ ففي خطاب الأصوليات الحديثة، الوطن ليس إلا ذريعة مؤقتة أو عبئًا أيديولوجيًا يجب تجاوزه... ؛ نعم في عُرفها، الخرائط بدعة، والحدود رجس من عمل الشيطان، والسيادة كفر إذا لم تُشرّع من السماء أو من مركز قيادة ما وراء الحدود... ؛ اما الأرض التي وُلدت فيها ليست أكثر من محطة عابرة في طريق الجهاد العقائدي... ؛ وكل صوت يُنادِي بحب الوطن وحماية مصالحه واهله يُوسَم إما بالقومية الجاهلية أو بالعلمانية الكافرة او يطلق عليه لقب ( وطنجي) إنها صناعة منكوسة ممنهجة لتحقير الذات، وتجريد المواطن من شعوره بالانتماء، وإقناعه بأن كرامته لا تُستمد من ترابه، بل من جغرافيا مقدّسة لا علاقة لها بحياته اليومية ...!!

اذ تتبنى الأصولية السنية (المتجسدة في تيارات كالإخوان المسلمين) رؤيةً تقزيمية للوطن تُختزله في تعريفها إلى "مَجَرَّد حُفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ عَفِنٍ"، وتلتقي الأصولية الشيعية المتطرفة (كبعض التيارات الدينية في إيران والعراق وغيرهما ) مع هذا المفهوم حين تُصَفِّي الوطن إلى " مجرد حدود مصطنعة وضعها الاستعمار لا غير"... ؛ هذا الموقف النظري - المستند إلى خلفية أممية دينية تذوب فيها الحدود الوطنية في بوتقة المشروع الطائفي أو الديني - ؛ يتحول إلى تناقض صارخ عند التطبيق.

فالجماعات الأصولية نفسها، سواء في تجلياتها السنية المرتبطة بتركيا أو شيعتها الإيرانية، تنقلب على هذه الفلسفة حين يتعلق الأمر بترابها الوطني وأمنها القومي ... ؛ اذ إنها ترفع أرضها إلى مقام "التراب الطاهر" الذي يُحَرَّم تدنيسه دينيًّا، بل تجعل من انتقاده "كبيرةً دينيةً" تستوجب التكفير... ؛ بينما تفرط بقدسية تراب الاوطان الاخرى ... ؛ هذه الازدواجية ليست ثغرةً عابرةً، بل هي استراتيجية خطابية ممنهجة تخدم أهدافًا سياسيةً عميقة:

1 - الهندسة العاطفية للولاءات:

تستخدم الأصوليات خطاب "تحقير الوطن" (كفكرة مجردة) لتفكيك الروابط الوطنية في المجتمعات المستهدفة، وتسهيل استقطاب أفرادها نحو "المركز الطائفي" (تركيا/إيران / السعودية )... ؛ وفي المقابل، تحوِّل خطاب "التقديس الترابي" لأراضيها إلى أداةٍ لتكريس الشرعية السياسية تحت غطاء القداسة.

إنها الأصولية العقائدية السياسية حين تبلغ ذروتها في التناقض:فـ الأصولية السنية كما تمثلها أدبيات جماعات مثل الإخوان المسلمين، لطالما عرّفت الوطن بأنه حفنة تراب نجس، لا يستحق التقديس، ولا يُقاتل من أجله... ؛ وفي الجهة الأخرى، فإن الأصولية الشيعية كما تتجسد في خطاب ولاية الفقيه، تُنتج ذات المنطق: لا وطن خارج منظومة "الولي"، ولا قداسة لأرض لا تتصل بمركز القرار في قم أو طهران.

لكن المفارقة الكُبرى – التي لا يلتفت إليها الكثير من الأبرياء – أن من يروّجون لهذا الازدراء للوطن، لا يطبقونه على أنفسهم:فـ الأتراك الأصوليون من تيار أردوغان لا يقولون إن تركيا "تراب عفن"، بل "أرض طاهرة مباركة"، وأن المساس بها يُعد من الكبائر.

والإيرانيون الأصوليون لا يسمحون بمجرد التفكير في أن يُمسّ تراب طهران بسوء، بل يجعلونه جزءًا من عقيدتهم الجغرافية المقدسة بل اعتبروا ايران كعبة التشيع وبيضة الاسلام .

وهنا تتجلى المهارة الذكية لتلك الأصوليات: لقد نجحوا في أن يُقنعوا الأتباع العرب وغيرهم بأن أوطانهم خالية من القيمة، وأن الموت لأجلها عبث دنيوي، بينما يُسوّقون أوطانهم الأم كأنها حرم إلهي لا يُدنس... ؛ وهكذا، صار الرجل العراقي والافغاني وغيرهما مستعدًا للموت على حدود اوكرانيا، أو في صحراء الشام، أو بين جبال الجولان ، لكنه لا يتحرّك لحماية نخلة في البصرة أو منطقة تقطنها الشيعة في افغانستان من خطر طالبان ...!!

ففي إيران الأصولية، تراب الوطن "طاهر"، والدفاع عنه "واجب شرعي"، والمساس به "عدوان على المقدس".

وفي تركيا الأردوغانية، التراب "مقدّس"، والانتماء "إيمان"، والعلم التركي "راية لا تُداس".

هم يُقنِعونك أن وطنك عفن وحدوده مصطنعة ... ؛ ثم يُقنِعونك أن تموت في سبيل وطنهم الطاهر وقضاياهم الخارجية وسياساتهم الدولية والاقليمية !

أي ذكاء هذا الذي جعل الشعوب التابعة تسجد لمشاريع سادتها وتبصق على ترابها ...؟!

2- الاقتصاد الرمزي للهيمنة:

يُمَكِّنها هذا التناقض من تصدير ثنائية:

- "تراب مقدس" (أرض المركز) الذي يجب الولاء له.

- "تراب مدنس" (أوطان التخوم) الذي يجب تحريره أو هيمنتها !

مما يخلق تيارًا عابرًا للحدود يغذي المشاريع التوسعية تحت شعارات دينية ... ؛ وعند تفكيك هذه المعادلة المنكوسة تعرف سر اصرار البعض على وصف العراق بانه ارض الشقاق والنفاق , او سبب شيوع قصائد من قبيل ( غضب رب العباد على ارض السواد ) او ( الكوفة مو امينة .. طينتهم لعينة ) , او الاستهزاء برجال الدين العراقيين الذين ينحدرون من الجنوب والفرات الاوسط ... .

*بين الأصولية الدينية والتبعية الجيوعقائدية

ليست المشكلة في التدين، بل في تحويل العقيدة إلى مطية سياسية عابرة للأوطان... ؛ فالخلط بين السنة والسنة الأصولية، وبين الشيعة والشيعة الأصولية، خطأ قاتل... ؛ والمشكلة ليست في المذهب، بل في التوظيف السياسي للعقيدة، حين تتحوّل إلى أداة لاختراق الشعوب، وتفكيك الدول، وتحويل الولاءات من الواقع إلى الطوباوية ؛ فحين يُربى الإنسان على أن انتماءه الحقيقي خارج جغرافيته، فإن خيانته لترابه تصبح مسألة وقت لا أكثر... ؛ والأخطر أن هذه الأصوليات نجحت في إخفاء سمّها تحت غطاء الطهرانية الدينية:

فمن يقدّس "التراب التركي أو الإيراني" يُوصف بأنه وطني... ؛ أما من يدافع عن بغداد أو البصرة أو النجف الاشرف ، فقد يُتهم بـ"القومية الجاهلية"، أو "الوثنية الوطنية"، أو "العلمانية الكافرة"...!!

وهكذا يتحوّل الشاب العراقي وغيره – سنيًا كان أم شيعيًا – إلى وقود في معركة لا علاقة لها بترابه، ولا بدماء أمته الوطنية وشعبه ، ولا بتاريخ أرضه، بل بخطاب أيديولوجي عابر، جعل من الولاء العقائدي أهم من الولاء الوطني، ومن الطاعة أهم من الوعي.

إنها مفارقة تُدرّس في كيفية قتل الحس الوطني من الداخل، عبر آليات دينية ذات طابع شمولي لا تؤمن بالوطن ولا تقيم وزنًا لحدوده.

أيُّ خديعة أعظم من أن تكره أرضك وتعبد أرض غيرك او ارض عدوك ...؟!

ليس في الأرض كلها خيانة أخطر من أن يُقنِع الإنسان نفسه أن الدفاع عن بلده كفر، وأن الموت لأجل "تراب خارجي" عبادة... ؛ فحين يُصبح العراقي مستعدًا أن يموت على سفوح إدلب أو في مزارع الجنوب اللبناني، لكنه لا يحرّك ساكنًا حين يُداس تراب مدينته... ؛ فاعلم أن عقله مخترق، وأن انتماءه أُعيدت برمجته ... .

وما لم يتحرر الإنسان العراقي وغيره من هذا التقديس الأعمى لمراكز العقيدة الجغرافية، سيظل مستعدًا للموت لأجل "طهران" أو "أنقرة" أو غيرهما ، ويرى في موته على حدود بغداد أو البصرة مجرد "موت بلا معنى"... ؛ إنها خيانة مزدوجة: خيانة الأرض، وخيانة الوعي.

نعم قد يهب العراقي الى حماية حدود العراق ولكن بأوامر خارجية ؛ وليس من تلقاء نفسه او بسبب الدوافع الوطنية والغيرة العراقية ؛ فهذا والقاعد سيان ؛ لانهما لا يرتبطان بالوطن .

 

3. الانفصام بين الخطاب والممارسة:

بينما ترفض الأصوليات فكرة "الدولة القومية" نظريًّا، فإنها تبني كياناتٍ سياسيةً أكثر مركزيةً وقمعيةً من الدول التي تهاجمها، مستعينةً بآلة دينيةٍ لتبرير هذا التناقض... ؛ بل وتغذي الروح القومية بالخطاب الديني المحلي نفسه .

هذا التناقض الجوهري بين النظرية (ازدراء الوطن كفكرة) والتطبيق (تأليه الوطن الخاص) ليس سذاجةً، بل هو نتاج "ذكاء مفرط" في هندسة الخطاب والاستراتيجيا.

* حين يصبح الوطن عدوًا

لقد أتقنت هذه الجماعات فن توظيف العاطفة الدينية والهوية... ؛ فهي تستخدم خطابها الأممي لتحقير أوطان الآخرين ("التراب العفن")، بهدف تقويض ولاء مواطنيها لدولهم الوطنية وشرعنة التدخل أو الهيمنة، تحت شعارات الوحدة الإسلامية أو نصرة الطائفة. وفي المقابل، تستثمر قدسية "بلد المنبع" (مصر للإخوان تاريخيًا، تركيا لبعض التيارات السنية المتشددة، إيران للشيعية الثورية , والسعودية للسلفية والوهابية ) كمركز ديني وسياسي يجب تقديسه والدفاع عنه بشراسة... ؛ إنها عملية مزدوجة: "تعفين" تراب الأوطان التابعة أو المعادية لتفكيكها، و"تقديس" تراب الوطن الأم أو المركز لتركيز السلطة والولاء فيه.

*الخلاصة التمييزية:

هذا التحليل يُسَلِّط الضوء على الخطاب السياسي للأصوليات كظاهرةٍ سلطويةٍ توظف الدين، وهو لا يعمم على:

- عموم أهل السُّنَّة الذين يُقَدِّسون أوطانهم ضمن رؤى وطنية متوازنة.

- عموم الشيعة الذين يرفضون توظيف عقيدتهم لمشاريع هيمنة.

الفارق جوهري بين المذاهب الإسلامية المتسامحة وبين الآيديولوجيات الأصولية التي تحوِّل الدين إلى أداةٍ للاستقطاب والهيمنة عبر استغلال ثنائية "التدنيس/التقديس".

و لا بد من فرز ضروري ؛ اذ علينا أن نفرّق بين: السني الوطني والسني الأصولي... ؛ والشيعي الوطني والشيعي الأصولي... ؛ فالأول يحيا لأجل وطنه، ويرى في الدفاع عنه جزءًا من الإيمان... ؛ أما الثاني، فلا يرى في الوطن إلا محطة مؤقتة، أو خندقًا في حرب كونية "مقدسة"، لا مكان فيها للأوطان الصغيرة.

نعم كثيرون لا يفرّقون – عن جهل أو عن عمد – بين: السني الوطني الذي يرى في حب الأرض من الإيمان... ؛ والسني الأصولي الذي لا يرى في الحدود إلا مؤامرة استعمارية.

ولا بين: الشيعي الوطني الذي يربط بين الحسين والوطن والتشيع والعراق ؛ والشيعي الأصولي الذي يرى أن الولاء الحقيقي يبدأ من قم المقدسة لا من النجف الاشرف او كربلاء المقدسة ... .

اغلب هؤلاء - الاصولية - لا ينتمون إلى مذاهب، بل إلى مشاريع سياسية متخفية في عباءة العقيدة... ؛ فما من عقيدة سليمة تُنتج كراهية للأرض، أو تدعو لنكران المعروف، أو تُشوّه فكرة الوطن.

الوطن ليس ترابًا عفنًا او حدودا مصطنعة ... ؛ فالعفن يكمن في العقيدة حين تتحول إلى أداة لتمزيق الأوطان وتحويلها إلى مقابر للأتباع وعرائش للأسياد ؛ لا في الاوطان ... ؛ نعم الأوطان طاهرة بما فيها من ذاكرة ودم وتراب وتاريخ ، والعفن الحقيقي هو ما يُبثّ في العقول لتصبح أدوات بيد الآخر، وسكاكين تُغرس في خاصرة أوطانها باسم الدين.

فالأوطان التي يُقال عنها إنها "حفنة تراب عفن او عبارة عن حدود مصطنعة"، لا يمكنها أن تنهض ما دامت عقول أبنائها محتلّة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رياض سعد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/09/18


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • الدعاية الانتخابية بين الفوضى والتبذير وعشوائية الرسالة وتناقض الصورة مع مضمونها: قراءة اجتماعية وسياسية في مشهد انتخابات العراق ٢٠٢٥  (المقالات)

    • العراق واستقرار الأغلبية الأصيلة: معادلة الأمن الوطني وحقيقة التوازن السياسي  (المقالات)

    • سوريا بين طمس الهوية وهيمنة العقل الصحراوي والتكفيري  (المقالات)

    • الخيانة في العراق … الدونية المتوارثة  (المقالات)

    • الوقاحة… الوجه العاري لانهيار القيم  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : ثنائية الدين والوطن - الازدواجية المقدَّسة: تناقض الأصوليات في تشريح مفهوم الوطن
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net