المتقاعدون العراقيون يواجهون شبح الفقر والمرض
صادق الازرفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صادق الازرفي

يتوقف كثير من كبار السن في العراق عند أبواب منافذ الصرف والبنوك والمصارف، في انتظار راتب التقاعد الذي يمثل شريان حياتهم الوحيد، ولكن تأخره يلقي بظلاله الثقيلة على صحتهم وحياتهم اليومية، اذ لا يمثل الراتب التقاعدي بالنسبة لهؤلاء مجرد مبلغ مالي، بل هو الأمان من الجوع ومرارة الحاجة؛ بواسطته، يوفرون قوتهم اليومي، ويشترون الأدوية التي تبقي أمراضهم المزمنة تحت السيطرة.
إنّ تأخير الراتب ليس مجرد إجراء إداري، بل هو أزمة إنسانية تهدد حياة شريحة واسعة من المجتمع، وتعرضهم لأزمات صحية قد لا يستطيعون تحملها، فراتب التقاعد هو حق لا يمكن التلاعب به، ويجب أن تتكاتف جميع الجهود من أجل ضمان حصول المتقاعدين على رواتبهم في الوقت المحدد، فهم يستحقون العيش بكرامة، وأن ينالوا الرعاية التي تليق بهم بعد سنوات طويلة من الخدمة.
لقد جرى تأجيل صرف رواتب المتقاعدين هذا الشهر الى اشعار اخر، بعد ان كان اعلن في الاول من ايلول أن رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكرين للشهر، من المرجح أن توزع عصر اليوم نفسه، ثم سرعان ما جرى التراجع عن ذلك.
وقال مصدر مطلع لوكالة شفق نيوز، انه جرى تأجيل رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكرين لشهر ايلول الى اشعار اخر لم يتم الاعلان عنه بسبب قلة السيولة المالية، متوقعا أن يجري توزيعها مع بداية الأسبوع المقبل.
إن تأخر رواتب المتقاعدين في العراق، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، هو مشكلة متكررة تعود إلى عدة أسباب متشابكة، رغم نفي وزارة المالية لتواجد نقص في السيولة في بعض الأحيان.
وبحسب تحليلات الخبراء فان الاعتماد المفرط على النفط، يمثل أس الشكلة اذ يمثل النفط المصدر الرئيس للإيرادات في العراق، وأي انخفاض في أسعار النفط العالمية أو في حجم الصادرات يؤثر بشكل مباشر على الميزانية العامة للدولة وقدرتها على تمويل النفقات الثابتة مثل الرواتب.
وبرغم نفي وزارة المالية في بعض الأوقات لتواجد أزمة سيولة، إلا أن كثيرا من الخبراء الاقتصاديين والبرلمانيين يؤكدون أن الحكومة العراقية تعاني من نقص حاد في السيولة النقدية، بخاصة العملة المحلية (الدينار)، وهذا النقص يجعل من الصعب تأمين الأموال المطلوبة لدفع الرواتب في موعدها.
و يشكل بند الرواتب والإنفاق التشغيلي نسبة كبيرة جدا من إجمالي الميزانية، اذ يهيمن على أكثر من 80% من الإيرادات، وهذا يترك مساحة ضيقة جدا للنفقات الأخرى مثل الاستثمار في البنية التحتية أو سداد الديون، ويزيد من الضغط على الميزانية عند أي تراجع في الإيرادات.
ويلفت مراقبون الى أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم تضع خططا حقيقية لمعالجة الأزمات المالية المتكررة، ولم تعمل على تنويع مصادر الدخل بعيدا عن النفط، مما يجعل الاقتصاد العراقي هشا ومعرضا للصدمات الخارجية.
في بعض الحالات، قد تعود أسباب التأخير إلى "إجراءات فنية وحسابية" أو تصادف يوم الصرف مع عطلة رسمية، كما سوغت وزارة المالية في مناسبات سابقة، إلا أن هذه الأسباب عادة ما تكون ثانوية ولا تفسر التأخير المتواصل.
يحذر الاقتصاديون في العراق من استمرار هذه المشكلة، ويرون أنها ليست مجرد تأخير عابر، بل هي مؤشر على أزمة مالية أعمق قد تترتب عليها عواقب وخيمة، من ذلك التأثير السلبي على حياة الناس اذ يعتمد المتقاعدون بشكل كبير على رواتبهم كمصدر دخل رئيس، وتأخيرها يسبب لهم ولأسرهم ضائقة مالية شديدة، بخاصة مع ارتفاع الأسعار وغياب الدعم الاجتماعي، كما يرجح بعض الاقتصاديين ان تشمل ازمة الرواتب الموظفين ايضا.
من جانبها، الحكومة قد تضطر إلى اللجوء إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لسد العجز في الميزانية ودفع الرواتب، مما يزيد من حجم الدين العام على المدى الطويل ويشكل عبئا على الأجيال المقبلة.
وتحذر بعض الجهات من احتمالية لجوء الحكومة إلى خيار "الادخار الإجباري" للرواتب، أي استقطاع جزء منها لمدة معينة، وهو ما يذكر العراقيين بالأزمات المالية الصعبة التي مروا بها في الماضي.
إن معالجة مشكلة تأخر رواتب المتقاعدين في العراق وتفاديها مستقبلا تتطلب مجموعة من الخطوات والإجراءات العملية الجذرية على المديين القصير والطويل، بهدف إصلاح الخلل الهيكلي في الاقتصاد العراقي.
فيمكن للحكومة على المدى القصير تفعيل صندوق سيولة طارئ أو صندوق للاستقرار المالي، يجري تمويله من فوائض الإيرادات النفطية عند ارتفاع الأسعار، هذا الصندوق يعمل كشبكة أمان لتأمين الرواتب والنفقات الأساسية في حال انخفاض أسعار النفط أو حدوث أزمات مالية مفاجئة.
و يجب على الحكومة تفعيل آليات جباية الضرائب والرسوم غير النفطية بشكل أكثر كفاءة وشفافية، وتشجيع القطاع الخاص، وفرض ضرائب على بعض السلع الكمالية أو العقارات الفاخرة، مما يقلل من الاعتماد الكلي على النفط كمصدر وحيد للإيرادات.
ويمكن تقليل النفقات غير الضرورية في الموازنة العامة، مثل نفقات السفر والإقامة والضيافة للمسؤولين، وإلغاء امتيازاتهم المالية المبالغ فيها، وتفعيل الرقابة الصارمة على المشاريع الحكومية لضمان عدم تواجد هدر أو فساد.
وعلى المدى الطويل يجب على الحكومة تبسيط الإجراءات المالية والإدارية المعقدة التي تؤدي إلى تأخر دفع المستحقات، واستعمال أنظمة الدفع الإلكتروني المتقدمة التي تضمن وصول الرواتب إلى المتقاعدين في موعدها المحدد من دون تأخير.
ومن الضروري توجيه الاستثمارات نحو قطاعات حيوية غير نفطية مثل الزراعة والصناعة والسياحة، مما يخلق فرص عمل جديدة ويوفر مصادر دخل مستدامة للدولة والسكان، ويقلل من عبء التوظيف الحكومي.
يجب ايضا إعادة النظر في قوانين التقاعد الحالية بما يتوافق مع الواقع الاقتصادي والمالي للدولة، ووضع خطط لتمويل صناديق تقاعد جديدة تضمن استدامة دفع الرواتب للمتقاعدين الحاليين والمستقبليين من دون الاعتماد على ميزانية الدولة بشكل كامل، وهنا يجب التذكير بإلغاء صندوق التقاعد السابق ككيان إداري ومالي مستقل بوساطة نظام رقم (8) لسنة 2025، الذي الغى نظام صندوق تقاعد موظفي الدولة رقم (4) لسنة 2008، ونفذ من تاريخ نفاذ النظام الداخلي الجديد لهيئة التقاعد الوطنية، وجرى نشره في جريدة الوقائع العراقية بتاريخ 11 آب 2025ـ غير انه لم يأتي بجديد.
جرى بموجب ذلك دمج مهام صندوق التقاعد السابق ضمن الهيكل الجديد لهيئة التقاعد الوطنية، لتصبح إدارة شؤون التقاعد مباشرة تحت إشرافها، و هو قرار إداري وتنظيمي وليس إلغاء للحقوق التقاعدية للموظفين والمتقاعدين، فهي تظل مكفولة بموجب قانون التقاعد الموحد.
باختصار، الحل يكمن في بناء اقتصاد عراقي مرن ومتعدد الموارد، لا يعتمد على النفط فقط؛ مع تواجد سياسات مالية وإدارية حكيمة وشفافة، مما يضمن كرامة المتقاعدين ويؤمن لهم مصدر دخل مستقرا لا يتأثر بتقلبات سوق النفط.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat