تأمُّلَات فِي مَعانِي اَلكرْسِي
د . محمد خضير الانباري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . محمد خضير الانباري

في مراتِ عدة، أتأملُ معاني( الكرسيِ) المتعددة، ليسَ في مفهومهِ المادي، ولكنْ في معانيهِ الأخرى ، فتفتحُ لي أبوابٌ وآفاقٌ كبيرةٌ في التأملِ الفلسفيِ والوجوديِ والروحي، ففي معناهُ المادي، مجردُ قطعةِ أثاثٍ يجلسُ عليها بعضِ الأشخاصِ لمدةٍ محددة، ثمَ يغادرونَ منْ حيثُ ما قدموا. بلْ هوَ رمز، وشاهدَ على أحداثِ أكثرَ مما ندركُ أوْ نعرف..! تتقاطعَ فيهِ الراحةُ معَ السلطة، والبساطةُ معَ العظمة، يستقبلَ الكرسيُ العاديُ الجسدُ ليستريح، بينما الكرسيُ المهيب، يستقبلَ صاحبه، ليحملهُ بمسؤوليات الحكمِ أوْ القيادة، إنهُ مقعدٌ رهيب يجمعُ بينَ الحضورِ والغياب؛ فهوَ يرفعُ منْ يعتليهُ إلى مقامِ أعلى، وفي الوقتِ نفسه، يذكره، بزوالهِ الحتميِ عندَ لحظةِ الانسحابِ أوْ التنازل، أوْ الإقصاء، أوْ الانقلابِ عليه من ذوي الشأن، هكذا يصبحُ الكرسي، فضاءٌ متناقضا، يمنحَ الهيبة، ويفضحُ هشاشةَ الإنسان، أمامَ الوقتِ والسلطةِ.
للكرسي معاني متعددة في الجوانبِ المادية، والروحية، ففي جانبهِ الروحيِ العظيم، (كرسيُ العرشِ ) ، كما في وردَ في آيةِ الكرسي، في قولهِ تعالى: ( وسعُ كرسيهِ السمواتِ والأرضَ) ، وهذا، تجلٍ رمزيٌ للعلمِ للسلطان، ولإحاطةِ بكلّ شيء، لا يحدهُ الزمان، ولا المكان، حيثُ تعرفُ هذهِ الآيةِ الكريمة، بفضلها العظيمِ ومكانتها السامية، لما تضمنتْ منْ أسماءِ الله، وصفاتهُ الكمالية، وعظمةُ قدرتهِ وعلمه، وتعدَ سببا في دخولِ الجنةِ، لمنْ يواظبُ على قراءتها. أوْ في معنى الكرسيِ البابوي، أوْ الرسولي، فهو، ليسَ مجردَ مقعدٍ مادي، بلْ رمزٌ دينيٌ وروحيٌ عميقٌ في الكنيسةِ الكاثوليكية، يرمزَ إلى السلطةِ الروحيةِ العليا.
أما في حياتنا الدنيوية، فلهُ معانٍ عدة، كما في كرسيِ السلطةِ أوْ الحكم، وما يتمخضُ عنهُ في بعضِ الأحيانِ منْ مآسٍ أوْ نتائجَ وخيمةٍ في الفسادِ أوْ فقدانِ العدالةِ أوْ الظلم، كما أسردها التاريخَ لنا، لينتهيَ حكمَ الحاكمِ غالبا نتيجةِ مكايدَ متعددة، أوْ الانقلاباتِ العسكرية، أوْ القتلِ بأشكالهِ وصورهِ المختلفةِ. أوْ في كرسيِ القضاء، الذي يرمزُ إلى العدالة، وتطبيقَ القانون، ولكنَ في نظرةَ بعض الأشخاص، تقللُ منْ شأنه، كما في قولهِ تعالى: ( وماأكثرهمْ للحقِ لكارهينَ ) ، أوْ الكرسيِ الأكاديمي، كما في الأستاذُ المتعلمُ، الذي يوهبُ علمهُ لطلابه، ويعدَ أثمنَ أنواعِ الكراسيِ وأرقاها، لمنْ يعتليه، بصدقٍ وإخلاص، ليخرج أجيالُ المستقبلِ في مختلفِ العلوم، لتقودَ البلاد، نحوَ برِ الأمانِ ويتحققُ ما يصبونَ إليهِ الشعبُ منْ تقدمٍ ورقي.
هنالكَ معانٍ أخرى لمفردةِ الكرسي، ففي معنى (كرسيُ الحلاق) دلالةً كبيرةً على عدمِ التشبثِ بالكرسيّ الوظيفي، لكونهِ متغيرا منْ زبونٍ إلى آخر، ففي ليلةِ وضحاها، تتغيرَ الأمور، ويأتي منْ يجلسُ على هذا الكرسي، ويزيحَ منْ اعتلاه. لنتوجهْ غربا، إلى الكرسيِ الكهربائي، سيئ الصيت، كما في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية، وهوَ إحدى وسائلِ تنفيذِ عقوبةِ الإعدامِ التي استخدمتْ في القرنِ العشرين، ففي الثقافةِ الأمريكية، أصبحَ رمزا لمفهومِ العدالةِ الصارمة، وأحيانا للجدلِ الأخلاقيِ حولَ عقوبةِ الإعدام. لما تقدم؛ يتطلبُ لمنْ يعتلي الكرسي، بأية صورةً كانت، للراحةِ والجلوسِ أوْ للوظيفةِ أوْ الحكمِ أوْ القضاء، في تطبيقِ العدالةِ واستخدامِ الحكمة، الفكرُ الواسعُ النير، الصبر، تحملُ المسؤوليةِ الحقيقية، وعدمَ الانزلاقِ في متاهاتِ الدنيا، وليتذكرَ دائما، قولُ الله- سبحانهُ وتعالى: (إنَ اللهَ كانَ عليكمْ رقيبا ).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat