صفحة الكاتب : جاسم محمدعلي المعموري

في الطريق إلى الحسين ( عليه السلام )
جاسم محمدعلي المعموري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

على الطريق بين النجف وكربلاء سنة 2019
حين تضع أول خطوة على طريق كربلاء، تشعر وكأنك لا تمشي على تراب، بل على سطور مقدسة من كتاب الزمن، تقرؤها بأخمص قدميك، وتُعيد كتابتها بدمعك وصمتك وتأملك العميق. لا هواء الطريق كهواء المدن، ولا نبضه كنبض الأسفلت. هواء الطريق إلى كربلاء ممتلئ بالحزن والحنين، مشبع بنداء خفيّ، كأن الزمن كله ينكمش في هذه المسافة، ويهمس لك: هنا الحقيقة.
هذا الطريق ليس مجرد أميالٍ من تراب، ولا هو قوافل تسير نحو مدينة جنوبية، بل هو رحلة إلى الداخل، إلى أعماقك التي نسيتها خلف زحمة الأيام. تمشي.. ومع كل خطوة تخلع عنك شيئًا من العالم: حساباتك، مخاوفك، هويتك، تتبخر من داخلك ضوضاء الحياة، ليبقى فقط صوت الحسين، يناديك من التاريخ، لا بلسان، بل بنور.
في الطريق إلى الحسين (عليه السلام) ، تصير وحيدًا رغم الزحام. تمشي بين ملايين الأرواح، وكلٌ منهم يسير بجسدٍ، ولكن القلب يحلق وحده، يصغي لصمتٍ كربلائي، تتردد فيه صرخة رضيع، وزفرة أم، ونخوة فارس سقط عن جواده ورفعته السماء.
في الطريق إلى الحسين، لا يهم من أين أتيت، ولا من تكون، لأنك هناك تنسى نفسك لتتقمص ذاتًا أكبر، ذاتًا طهّرتها المسافة، وغسلتها الحسرات، وأعادت تشكيلها ذكرى الحسين. تتبدّل اللغة، وتضيع الأسماء، ويتبخر صوت الذات. وحده صوت الحسين يعلو من وراء الزمان: "ألا من ناصر ينصرني؟"، وأنت، في هذا القرن، تجد نفسك تهتف في داخلك: "لبيك يا حسين"، رغم أنك تعلم أن النداء مضى عليه قرون، ولكنه لا زال حيًا في قلبك
الهويّة تسقط عند أول ميل, عند اول (عمود)*، وتنبت مكانها هوية جديدة، لا ترتبط بوطن، ولا بلقب، بل بحقيقة واحدة: أنك إنسان يمشي نحو النور، يخلع عن كتفيه ثقل العالم، ويجرد قلبه من كل زخرف ليحمله عاريًا إلى مرقد الحقيقة.
كل ما كان يبدو عظيمًا في الدنيا، يتضاءل شيئًا فشيئًا، المال، المكانة، حتى الأنا. تذوب هذه الصور كلها أمام وهج الطف، وتبقى صورة واحدة تتجلى في الأفق: الحسين، يمشي نحو الشهادة، وأنت تمشي نحوه لتلحق بهذا النور، ولو بخطوة.
الطريق إلى كربلاء ليس امتدادًا جغرافيًا، بل هوسراط روحي يحلق عاليا. إنه المرآة التي تعكس هشاشتك الإنسانية أمام بطولة الحسينيين. كلما مشيت أكثر، كلما شعرت أنك أصغر، وأشد احتياجًا إلى معنى، إلى تطهير، إلى تبرير لوجودك الذي بدا فارغًا أمام لحظة الطف هناك، في عمق الذاكرة الجماعية، في أرض الطفوف، سُطّرت معركة لا لربحٍ سياسي، بل لفكرة: أن تبقى حرًّا، ولو قُتلت، أن تموت عطشانًا، ولكنك لا تمد يدك لذلّ.
وهنا، وأنت تمشي، تتساءل: من أنا؟ ما الذي سأفعله لو كنت هناك؟ هل كنت سأهرب؟ هل كنت سأخذل؟ أم كنت سأقف ولو لحظة إلى جوار الحسين؟! هذه الأسئلة ليست وهمًا، بل هي التي تصنعك في جوهرالحسين (عليه السلام) لتولد من جديد، ككائن أكثر صدقًا.
المشي هنا ليس رياضة ولا ترحالًا، بل سفر في الذات الى الذات. كل خطوة تُنقّب في داخلك، كل تعب يزيح طبقة من الركام، كل قطرةعرق تفتح نافذة على معنى جديد. تكتشف كم كنت غافلًا، كم مررت على الحياة مرورًا سطحيًا، دون أن تغوص في أعماق الأسئلة: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما الذي يُنتظر مني؟ وهل عيشي مجرد تكرار لأيام لا تُفضي إلى شيء؟
مع كل (عمود)* تصل اليه ، يذوب جزء من الكبرياء الذي حملته دون أن تدري، وكلما اقتربت من المدينة التي شهدت أعظم التضحيات، تتقشر طبقات الزيف عن روحك، وتتعرى أمامك حقيقتك. هناك، على هذا الطريق، لا يوجد مكان للكذب على الذات. كأن الخطوات تمارس فعل المحاكمة، تعيد قراءة سيرتك الذاتية بصوتٍ عالٍ، وتطالبك بالحكم . وهنا تكتشف أن الطريق نفسه يراقبك. ليس لأنك مهم، بل لأن الطريق لا يمنح كشفه إلا لمن كان صادقًا. كل ما هو مصطنع يسقط، كل ما هو مزيّف يتلاشى. وحدها نواياك تسير أمامك، تنير لك الطريق، أو تظلمه عليك.
في لحظةٍ ما، يتوقف الزمن. تذوب الحواجز بين القرون. ترى في عيني طفل يسير إلى جانبك وهج عليّ الرضيع، وتسمع في أنين امرأة عجوزآهات زينب. تتخيل نفسك تمسك بقربة ماء تتمنى أن تسقي بها العطاشى، أو تحمل بندقية تصرخ في وجه التاريخ: "لماذا؟!". هنا تختلط الأزمنة. أنت لست في 2019، أنت هناك، في كربلاء، على رمال الطف، تتنفس الغبار، وتشعر بحر السيوف، وتشم رائحة الدم إنها ليست ذكرى، بل تجربة وجودية حية، تعيد تمثيلك أنت، لا فقط تمثيل الماضي. إن كربلاء تتحول من واقعة إلى مرآة تُظهر خيباتنا المعاصرة، كيف رضينا بالسكوت؟ كيف صرنا نشبه القاعدين بينما الحسين يمضي وحيدًا؟
هذا التماهي ليس خيالًا، بل حقيقة روحية. كربلاء ليست حدثًا مضى، بل تجربة مستمرة. الحسين لا يموت، لأنه يموت كل يوم في ضمير الناس، بل يُبعث في من قرر أن لا يسكت. وكل من يمشي نحوه، يعيد خلقه من جديد، يعيد صياغة كربلاء بصيغته هو. يبدأ بحمل سلاح من نوع آخر: سلاح الوعي. يتمنى أن لو كان هناك، ولكنه الآن هنا، وهذا هو الامتحان. أن تكون حسينيًا ليس أن تموت في كربلاء، بل أن تحيا بكربلاء في كل لحظة.
المسافة التي تقطعها نحو كربلاء ليست مجرد جغرافيا. إنها عملية تطهير بطيئة، مؤلمة أحيانًا. أنت تنزل من كبريائك، من زيفك، من وهم سيطرتك على حياتك، ثم تصعد إلى حقيقة أنك عبد لله، ولكنك تستطيع أن تكون عبدًا حرًّا، لا مستعبدًا للظالمين..
كل خطوة على الطريق تمزق شيئًا من الدنيا. جرح في القدم يقابله شفاء في القلب. عرق يسيل، فتسيل معه همومك. كل ألم جسدي يصبح ذريعة لتذكر ألم آخر، أعمق، ألم الروح، ألم الأمة، ألم الأطفال الذين رأوا الخيام تُحرق، ولم يفهموا لماذا كل هذا يحدث , كل خطوة على الطريق هي غُسلٌ من ذنبٍ، توبةٌ عن سكوت، ثورة صامتة على داخلك. إنها كربلاء داخلك أنت، لا كربلاء الخارج فقط. في قلبك يزيد صغير، يتغذى على مصالحك، وعلى خوفك، وهناك أيضًا حسين صغير، يحاول أن يصيح بك: "لن أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل"، فهل ستخنقه في صدرك ، أم تنصره بيدك ولسانك وقلبك؟
المشي الطويل في طقس قاسٍ، وتعبٍ لا ينتهي، هو ترويض، وليس مجرد مجاهدة جسدية. تُربى على الصبر، وعلى الصمت، وعلى الاستماع لصوت داخلي لا تسمعه إلا حين تبتعد عن ضجيج الحياة. هذه ليست مجرد "زيارة"، بل حجّ نحو ذاتك، نحو حقيقتك التي غمرها غبار العادة والروتين اليومي.
الحزن في كربلاء ليس بكاءً عاطفيًا، بل يقظة عقل وضمير. حين تبكي، فأنت لا تذرف دمعة على ماضٍ بعيد، بل على واقعك اليوم، على مجتمعك الذي يخاف، على نفسك التي تخذل الحسين (عليه السلام) كل يوم ,هذا البكاء هو الماء الذي يغسل قلبك من الرواسب، يلينه، يهيئه ليكون طاهرًا كربلائيًا.
وهنا تبدأ بالتماهي مع الحسين (عليه السلام)، لا كقائد تاريخي فقط، بل كرمز لكل مظلوم، لكل من قال "لا"، وهو يعرف أن ثمنها الدم. إن الحسين فيك ينتظر ولادتك من جديد، من خلال الأسى، من خلال التأمل، من خلال هذا الطريق الذي يمحوك لتُبعث من جديد.
تبكي لأنك ترى كيف تتكرر كربلاء بأشكال أخرى: في الظلم، في القمع، في الخذلان، في النفاق، في السكوت عن الحق. وتدرك أن الحسين لا يُبكى فقط، بل يُنصر، لا بعبارة عاطفية، بل بموقف، بكلمة، بقرار, عندها تتحول الدموع إلى عزم، والعزاء إلى وعي. الحسين لا يريد منك أن تبكي فقط، بل أن تكون حيًا في وجه موته، أن تُعيد خلق كربلاء كرفض دائم للذل. وكل بكاء لا يوقظ هذا فيك، هو عاطفة تمر، لا تترك أثرًا.
تمشي.. فتشعر أن الدنيا تصغر، أن بريقها زائف، أن كل شيء فيها مؤقت، إلا ما نعمله لله. ترى آلاف الخيام على جانبي الطريق، ولكن لا أحد يبيع شيئًا، كل شيء يُعطى مجانًا: الطعام، الشراب، الراحة تشعر أنك في عالم آخر، نُزع منه حب التملك، واستُبدل بالعطاء. هذا الزهد الجماعي ليس تنظيرًا صوفيًا، بل ممارسة حيّة، تُقنعك أن الإنسان ليس جشعًا بطبعه، بل جُعل محبًا للخير، لو تيقظت فطرته.
تشعر أنك في عالم آخر. الناس هنا لا يسألون عن هويتك، ولا عن ثروتك، ولا عن لغتك. يسألون فقط: هل أنت زائر الحسين؟ فيكفي أن تقول: نعم. وتُفتح أمامك القلوب، والأبواب، والصحون، والبطانيات , هذا العطاء اللا مشروط يذكّرك بجوهر الإسلام، بجوهر الإنسان. هنا تنقلب المعادلات، وتدرك أن المجتمع الذي كان يظن البعض أنه مستحيل، اصبح ممكنا. فقط حين يكون الحسين هو القاسم المشترك.
الغريب أن كل هؤلاء الغرباء على الطريق يتحدثون لغة واحدة: لغة الحب الحسيني. لا جنسية، لا طائفة، لا عرق، لا لون. كلهم ينادون "لبيك يا حسين"، وكأن الدم الذي سفك هناك صار لغةً وحدت الإنسانية هذا التوحد الفريد هو الحلم الذي فشل فيه العالم السياسي، ولكنه تحقق في الحسين.
تشعر أن الحقيقة المطلقة ليست نظرية، بل هي تلك التي تمشي على الطريق، تتجلى في وجه امرأة تخدمك بصمت، أو في طفل يقدّم لك كوب ماء ويقول: "من أجل عبد الله الرضيع". أيقونة التوحد هذه لا تحتاج مؤتمرات، بل مشيًا صامتًا نحو الحسين. إنه الاتحاد في الألم، في العشق، في النداء. ترى أفريقيًا يبكي، وأوروبيًا ينظف الطريق، وامرأة آسيوية تطبخ، وطفلًا عربيًا يحمل الماء. الكل في لحظة ذوبان كربلائي، يصبحون واحدًا.
هذه اللحظات تنقض كل ما قيل عن الإنسان. تثبت أن الإنسان، في جوهره، لا يطلب إلا شيئًا واحدًا: أن يُحِب ويُحب. أن يجد مِن أجل من يعيش، ومن أجل من يموت. والحسين يمنحهم هذا المعنى دون أن يطلب شيئًا.
حين تصل، وتقف عند الضريح، لا تهمك القباب المغطاة بالذهب ، ولا الجدران المزخرفة بالورود، بل تنظر إلى تلك التربة وتهمس: "لولاك ما عرفت نفسي". تبكي، ولكن بكاء العارف لا بكاء العاجز تبكي لأنك رأيت الله في ملامح الحسين (عليه السلام). لأنك، لوهلة، امنت وصدّقت أن الإنسان يمكن أن يكون حرًا، حتى لو قُتل.
ترى قبرًا بسيطًا، ولكنه يختصر العالم. تقول في داخلك, هنا النور، هنا الكرامة ,هنا الحرية . تدرك أن الحسين لا يسكن هذا المكان فقط، بل يسكن كل ضمير حيّ
ثم تبدأ رحلة العودة. ولكنك لم تعد كما كنت. أنت الآن ترى الدنيا بعيون كربلائية. صرت تعرف الفرق بين الموقف والسكوت، بين الحياة والوجود، بين أن تكون مع الناس، أو أن تكون مع الحسين .. تعود من الطريق، لكنك لا تعود كما كنت. عينك ترى بشكل مختلف، قلبك يخفق بإيقاع جديد. في داخلك كربلاء صغيرة لا تموت، تطالبك كل يوم: هل ستنصر الحسين اليوم؟ هل ستعيش حُرًّا؟ هل ستقول "لا"؟ أم ستخذله من جديد؟
في النهاية، تدرك أن الطريق إلى الحسين لا ينتهي عند الضريح، بل يبدأ منه. تبدأ منه لتعيش كربلاء كل يوم، في تفاصيلك الصغيرة، في خياراتك، في صمتك، في صوتك الحسين لم يمت، لأن الطريق إليه لا يزال يُسلك، لا يزال ينبض، لا يزال يُعيد تشكيلنا، كلما مشينا فيه.
أن تكون حسينيًا يعني أن تعيش الحسين في قرارك، في عملك، في قلبك، في حلمك. كل مرة تقرأ فيها خبرًا عن ظلم، تذكر: "ألا من ناصر ينصرني؟". وكل مرة تنصر حقًا، ولو بالكلمة، فأنت تجيب النداء. في الطريق الى الحسين لا تصل إلى كربلاء فحسب، بل تصل إلى نفسك. وحين تصل، تعرف أنك بدأت للتو.
* ( العمود ) مفرد اعمدة وضعت في الطريق بين النجف الاشرف وكربلاء المقدسة للانارة, وعددها يتجاوز 1450 عمودا , ووضعت عليها ارقام للدلالة على المسافة .

بين النجف وكربلاء سنة 2019


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جاسم محمدعلي المعموري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/08/13



كتابة تعليق لموضوع : في الطريق إلى الحسين ( عليه السلام )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net