ثمن اغتصاب السلطة وثمن الخضوع لها: قراءة تاريخية في إرث الدولة الأموية بين الدم والبطش والانقسام
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

مقدمة:
لم تكن الدولة الأموية مجرّد مرحلة انتقالية في التاريخ الإسلامي، بل كانت نقطة انعطاف مفصلية قلبت ميزان القيم السياسية والروحية التي بُني عليها الإسلام في عهد النبوة والخلافة الراشدة... ؛ فمنذ أن تم اغتصاب السلطة عام 41هـ (661 م)، والمعروف بـ"عام الجماعة"، عقب اتفاق "الصلح" بين الامام الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان، دخلت الأمة الإسلامية في نفقٍ مظلم من سفك الدماء والفتن الداخلية والانقسامات المذهبية والسياسية التي لم تتعافَ منها حتى اليوم... ؛ وقد دفع المسلمون، شيعةً وسنة، عرباً وعجماً، أثماناً باهظة من دمائهم وحقوقهم وكرامتهم جرّاء ذلك التحول الجوهري في طبيعة الحكم، من "خلافة شوروية" إلى "ملك عضوض وراثي"... ؛ اذ لم يكن هذا التحول مجرد تغيير في النموذج السياسي، بل كان بداية لحقبة طويلة دفع خلالها المجتمع الإسلامي ثمناً باهظاً من دماء أبنائه وثرواته ووحدته واستقراره كما اسلفنا... ؛ ولقد كشف الصراع على السلطة وثمن الخضوع لها عن تناقضات عميقة في بنية الدولة الناشئة، وأسس لنمط من الحكم اتسم بالعنف والقمع في مواجهة أي معارضة، مما خلف تركة ثقيلة من المآسي والانقسامات.
أولاً: الانقلاب الأموي وبداية النزيف
بدأ الانقلاب الحقيقي في معركة صفين سنة 37هـ، عندما تمرد والي الشام معاوية بن أبي سفيان على الخليفة الشرعي الامام علي بن أبي طالب ... ؛ و افضى هذا التمرد الاموي ضد السلطة الشرعية الى مواجهة دامية يُقدر المؤرخون، مثل الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، أنها أزهقت أرواح عشرات الآلاف من الطرفين- (تشير بعض التقديرات إلى حوالي 70 ألفًا) -، دون أن تحسم النتيجة عسكرياً ... ؛ وان كانت الكفة تميل الى صالح جيش الامام علي ؛ لولا قصة ومؤامرة التحكيم ؛ الذي استخدم كغطاء لشرعنة الانقلاب السياسي ... ؛ وقد أدت فتنة التحكيم التي تلت المعركة إلى انقسام حاد في صفوف جيش الامام علي، مهدت الطريق لاندلاع معركة النهروان ... ؛ ودخلت الأمة بعدها في دوامة من الفتن ... .
وقد عمد معاوية بعد ذلك إلى إرسال الغارات المسلحة على المدن العراقية والحجازية واليمنية، في سابقة خطيرة تمثلت باستخدام العنف ضد "أمصار المسلمين"، لا ضد الكفار أو الخارجين على الدولة، مما رسّخ منطق الاستبداد الدموي المبكر...
ومن أبشع تلك الغارات : غارة بسر بن أرطاة، التي ذهب ضحيتها ما يقارب 30 ألف مسلم في المدينة ومكة واليمن، بينهم أطفال ونساء، في حملة تطهير سياسي هدفها قمع أي ولاء لآل علي أو لبقية رموز المعارضة.
ثانياً: الاغتيالات السياسية وتصفية المعارضين
من أجل تثبيت الحكم الوراثي، لجأ معاوية إلى سلسلة من الاغتيالات السياسية طالت أبرز المعارضين لطموحه الملكي... ؛ فقد قام بدسّ السم إلى الإمام الحسن بن علي عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث، بعد أن أغراه بالمال والزواج من يزيد، حسبما تذكر روايات معتبرة عند الشيعة وبعض مصادر أهل السنة... ؛ كما اغتال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، أحد أبرز قادة الشام، لأنه كان يحظى بشعبية كبيرة قد تهدد توريث الحكم ليزيد... ؛ ويُقال إنه دسّ له السم عبر طبيبه النصراني ابن أثال... ؛ واغتال أيضاً سعيد بن عثمان بن عفان، أحد أحفاد الخليفة الثالث، وكان يطمح إلى الخلافة بحكم النسب والوجاهة... ؛ كذلك يتّهمه بعض المؤرخين بقتل السيدة عائشة وأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، لمعارضتهما البيعة ليزيد... الخ .
ثالثاً: ثلاث سنوات دموية في عهد يزيد بن معاوية
ارتكب يزيد بن معاوية، خلال ثلاث سنوات فقط من حكمه، ثلاث مجازر هزّت الوجدان الإسلامي :
*** مجزرة كربلاء (61هـ): التي راح ضحيتها الإمام الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه، في فاجعة كربلاء الشهيرة، التي شكلت جرحاً مفتوحاً في الضمير الإسلامي...؛ فقد هزت ضمير الأمة وأصبحت رمزاً أبدياً للظلم والمقاومة، كما يروي تفاصيلها المؤرخون كالطبري وابن الأثير في "الكامل".
***واقعة الحرة (63هـ): استباح فيها جيش يزيد المدينة المنورة لثلاثة أيام، قُتل خلالها آلاف من الأنصار والمهاجرين، وانتهكت أعراض النساء، حتى قيل إن ألف امرأة حملن سفاحاً...!!
***حصار مكة وهدم الكعبة (64 هـ): لجأ عبد الله بن الزبير، المعارض ليزيد، إلى مكة... ؛ ثم حاصرها جيش أموي بقيادة الحصين بن نمير وقصف الكعبة بالمنجنيق مما أدى إلى احتراقها وتدمير أجزاء منها، في مشهد لم يسبق له مثيل في الإسلام.
رابعاً: النزاع الأموي الداخلي وانفجار الفتن
بعد وفاة يزيد، تنازل ابنه معاوية الثاني عن الحكم , ولم تنته المآسي بوفاة يزيد ؛ فبدأ الصراع الداخلي بين فروع البيت الأموي (المروانيون والسفيانيون)، ما أدى إلى اندلاع الحروب بين القيسية واليمانية... ؛ وبعد مقتل مروان بن الحكم على يد زوجته، تولى عبد الملك بن مروان السلطة، وأطلق حملة توطيد دموية سحق فيها معارضيه... ؛ وشهدت هذه المرحلة أحداثاً كبرى مثل :
*** ثورة التوابين (65هـ): بقيادة الشيعي سليمان بن صرد.
*** ثورة المختار الثقفي الشيعي (66هـ): الذي حكم الكوفة وانتقم من قتلة الحسين.
*** مجزرة السفاح مصعب بن الزبير ضد أتباع المختار العراقيين .
خامساً: الثورات ضد الأمويين من المحيط إلى الخليج
توالت الثورات والانتفاضات ضد الحكم الأموي في كل أرجاء الدولة، منها:
*ثورة ابن الأشعث (82هـ).
*ثورة يزيد بن المهلب.
*ثورة زيد بن علي (122هـ).
*ثورات الخوارج المتكررة.
*ثورات البربر في المغرب والأندلس.
*ثورات الزنوج والموالي.
كلها أدّت إلى مقتل الآلاف وفضحت هشاشة الحكم الأموي رغم جبروته الظاهري وارهابه الاجرامي ...
سادساً: بطش الأمويين حتى بحلفائهم
لم يسلم حتى كبار أعوان بني أمية من التنكيل، ومن أبرزهم :
*آل الحجاج الثقفي : اذ طُردوا وسُجن بعضهم بعد موت الحجاج رغم ولائهم الشديد.
*آل المهلب: قُتل المئات منهم بعد ثورة يزيد بن المهلب.
*موسى بن نصير وطارق بن زياد: عُزلوا وأُهينوا، رغم فتحهم الأندلس وشمال إفريقيا.
اما الخلفاء المقتولون داخل الأسرة فهم :
*مروان بن الحكم (مقتولاً على يد زوجته).
*عمر بن عبد العزيز (مسموماً).
*الوليد بن يزيد (مقطوع الرأس ومصلوباً).
*عمرو بن سعيد الأشدق (مقتولاً غدراً).
الخاتمة : من الدم إلى الانهيار
لم يكن سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين عام 132هـ مجرّد انقلاب عسكري، بل كان نتيجة طبيعية لعقود من القمع والدموية والتصفية والانقسام والتشرذم والظلم والجور والانحراف... ؛ لقد دفعت الأمة الإسلامية، وما تزال، ثمناً باهظاً لصعود أول تجربة "ملكية سلطانية غاشمة " في التاريخ الإسلامي، وهي تجربة شكّلت انقطاعاً حاداً عن قيم الإسلام الأولى.
ولعل دروس التاريخ الأموية، من اغتصاب السلطة إلى الخضوع لها، تؤكد أن استقرار الحكم لا يمكن أن يتحقق بالقوة وحدها، بل بالمشروعية والعدل ورضا الناس.
..................................................
المصادر والمراجع:
المصدر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج4، وأبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين.
المصدر: ابن كثير، البداية والنهاية، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج3.
المصدر: البلاذري، أنساب الأشراف، والذهبي، سير أعلام النبلاء
المصدر: المسعودي، مروج الذهب، والكامل في التاريخ لابن الأثير.
المصدر: خليفة بن خياط، تاريخ الخلفاء، ومحمد عمارة، الإسلام والسياسة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat