حين يمر به الخصب، وتمتلأ الحقول، وتنحني السنابل ليزهر على وجنات الفقر طعم الرغيف، لا يحسبه الشاعر ربيعا ما دامت الجراح هي الملاذ
أي خصب؟
وأطفال الخيام جياع
وأي حقول؟ هي التي تعجز عن خلق طيف امأن...
وفي خاصرة التواريخ تستيقظ كل يوم خيام وعطش، ورماح ترسم لهم خارطة الغد...
ومع هذا صرنا نقرأ الجرح على ضوء المنائر
شاعر يرى كربلاء بحرا من الاسى، وشاعر يراها منبر خير وقناديل فكر وضوء...
هنا يولد السؤال
ـ كيف يوازن الشاعر بين المصائبية والفكرية
الشعر في جوهره، مزيج بين الشجن والفكر،
بين ما ينفلت من صرخة الروح، وما ينقدح من شرارة العقل، هي توليفة بين النزف والتأمل،
جدل وجودي بين حرارة الجرح وصفاء الرؤية.
من خلاله تتبدّى عظمة الشاعر حين يستطيع أن يحول المصاب من وجع شخصي إلى قضية إنسانية-فكرية تتجاوز حدود لحظة المأساة، لتنتج شعرا محلقا خارج حدود الانفعالية إلى أفق يوقظ الفكر والشعور.
الفكر إذا جرد من حرارة الشعور يصبح باردا لا يعكس المشاعر، والموازنة بين "المصائبية والفكرية" عملية تفاعل داخلية، فيها حرارة الإحساس وصفاء الوعي، من خلال هذا التفاعل يخلق الشاعر نصا قادرا على أن يشعل في قلب المتلقي وجعا حارقا لا ينسى.
والشاعر المتمكن يستطيع الإمساك بخيط الحزن وشده إلى فضاء التأمل، والتساؤل، والمعنى، فيحول المأساة من حادثة ماضية إلى نص مفتوح الأفق على العدل الإلهي، والمصير الإنساني، وجدلية الألم، والحق.
الشعر المصائبي جسر من نور ونار، نار المأساة التي تحرق، ونور الفكرة التي تفتح مسارب التأمل، وعند هذه المنطقة الدقيقة يولد النص الذي يتجاوز الزمان والمكان؛ لأنه يحمل صدق الشعور، فيعالج المأساة كقضية وجودية حقيقة قادرة على الخلود.
وهذا ما نلمسه بجلاء في "تائية دعبل الخزاعي" مثلا، فقصيدته كتبت بالفكر والدمع، لذلك نجد على امتداد أبياتها يتدفق النفس المصائبي في صور دامية، حتى ليكاد القارئ يسمع أنين الطفوف ويشم رائحة المأساة في كل بيت، في ذات الوقت نجد دعبل لم يقف عند حد المصائبية، بل أدار المأساة في فلك الفكرة، واستطاع أن يكتب نصا يستدر الدمع، ويحرض العقل على التفكير، فقصيدته تسوق المتلقي إلى التأمل في معنى المأساة الحسينية ومكانتها في الوعي الإنساني.
وهنا يتجلى التوازن الذي يحققه الشاعر بين المصائبية والفكرية، فالألم في التائية وقود فكرة، والفكر فيها صرخة روح.
وأد الطفولة
ذَبُلَ الزَّهرُ بِأشوَاكِ الشُّجُونِ
وَاستَثَارَ الحُزنُ أموَاهَ الجُفُونِ
وَاعتَلَى الصَّوتُ تَهَادَى في السُّكُونِ
زَلزَلَ الخِرْبَةَ بِالدَّمعِ الهَتُونِ
يَا حَيَاتِي بَعْدَهُ لا... لا تَكُونِي
عَمَّتِي أينَ أبِي فَلتُخْبِرُونِي
شَعَّ نُورٌ... إنَّهُ كَانَ بِقُربِي
حَاضِرًا نَادَيتُهُ صَارَ يُلَبِّي
مَدَّ كَفَّيهِ فَمَدَّ الكَّفُّ قَلبِي
ضَمَّنِي حَتَّى نَمَا بِالشَّوقِ جَدبِي
وَاعتَلَتْ نِيرَانُ كَربِي إِي وَرَبِّي
عَمَّتِي أينَ أبِي فَلتُخبِرُونِي
زَفرَةُ الآهِ تَعَالتْ مِنْ شِغَافِي
قُلتُ (بَابَا) حَالُنَا ليسَ بِخَافِ
سَائِلِ السَّوطَ سَيُدلِي بِاعتِرَافِ
وَاستَمِع لِلصَّوتِ فِي تِلكَ المَنَافِي
كَانَ جَلَّادًا بِهَاتِيكَ الفَيَافِي
عَمَّتِي أينَ أبِي... فَلتُخبِرُونِي
**
هَا هُنَا صَلَّتْ عَلَى رَأسِكَ رُوحِي
وَتَوَضَّتْ مِنْ لظى النَّزفِ جُرُوحِي
سَجَدَ النَّبْضُ فَنَادَيتَ استَرِيحِي
حَلِّقِي الآنَ بِذَا الكَونِ الفَسِيحِ
لا تَقُولِي عَمَّتِي لا... لا تَصِيحِي
عَمَّتِي أينَ أبِي فَلتُخبِرُونِي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat