صفحة الكاتب : خديجة عبدالواحد ناصر

حسينٌ على الموج
خديجة عبدالواحد ناصر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 كان البحر هادئًا على غير عادته، وكأنه يتحفّز لسماع اسمٍ يعرفه جيدًا. لا شيء يُحرّك الموج إلّا الصوت الذي يجيء من القوارب، من الزوارق، من الحناجر المرفوعة، من الأذرع التي تلوّح برايات كُتب عليها: "يا حسين". إنها ليست مجرد مسيرة، بل ولادة أخرى للبحر، حين يقرّر أن يُنجب كربلاء في صوته، وأن يُشيّع عاشوراء بموجه، وأن يُعلن ولاءه بطريقة لا يجيدها إلا الماء.
ليس غريبًا أن يسير الزائرون إلى الحسين عبر الطرق، لكن أن يُبحروا إليه، فتلك حكاية عشق لم يشهدها الموج من قبل. ترى السفن تتحرك على صفحة الماء، لكنها في الحقيقة تتحرك على قلوبٍ تهتف بالحسين. ترى الزوارق الصغيرة تحمل الركّاب، لكنها في الحقيقة تحمل دموعًا، ونذورًا، وحنينًا دفينًا منذ طفولة بعيدة. كل من ركب البحر نحو كربلاء، كان يعرف أن كل موجة تمهّد له السبيل، وأن كل نسمة بحرية تحمل في رائحتها شيئًا من تراب الطف.
من الفاو والبصرة وأبي الخصيب وقرى الجنوب العراقي، انطلقت القلوب قبل الخطى، تسبقها رايات، وتمهّد لها مواكب الخدمة، والصرخات الأولى: "لبيك يا حسين". كان البحارة يحملون المجالس معهم، ويقرأون زيارة عاشوراء بين مدٍّ وجزر، وكأنهم يقيمون مجلس العزاء على ظهر موجٍ يعرف الحسين أكثر من بعض البشر.
رأيت من ربط راية الحسين على سارية مركبه، وقال: "ليكن هذا المركب حسينية تمشي على الماء". رأيت من رشّ ماء البحر على رأسه وقال: "أردت أن أتطهّر قبل أن أدخل كربلاء". رأيت من غطّس رايته في البحر، كأنّه يُعمّد ولاءه بماءٍ لا يُطفئه شيء. ومنهم من مدّ يده في الماء وقال: "أعطني يا بحر قبسةً من عطش الرضيع، لعلّها تحرق ذنبي".
حتى البحر، ذاك الممتدّ بالصمت الأزلي، كان يتلوّى كأنّه يبكي، كأنّه يحنّ إلى الدم النبوي الذي سُفك بعيدًا عنه، ويريد أن يصل إليه بطريقةٍ ما، ولو بخدمة الزائرين، ولو بحملهم خطوة أقرب إلى كربلاء.
على هذا البحر، لم تكن المآذن تعلو، لكن التكبير كان في القلوب، ولم تكن المجالس تُعقد على السجادات، بل على الألواح والأخشاب، ولم يكن هنالك عطرٌ فخم، لكن ريح الماء المختلط بالدمع كان أزكى من المسك.
البحر، في هذا الطريق، لم يكن مجرد وسيلة، بل كان شاهداً. شهد الولاء وهو يُحمل على الظهور، وشهد الخطى تُسطّر على ضفافه، وشهد النذور تُلقى في عمقه، وكأن كل موجة تحمل رسالة: إنا ذاهبون إلى الحسين، فاحملنا كما حمل نوح أهله... نجاةً ومحبةً وبيعة.
وهكذا مشى الحسين على الموج، لا بجسده، بل بذكره. خاض البحرَ بدمعة محبّ، وسار على المدى بسفينة نجاة. من البحر بدأنا، ومن العشق مشينا، ومن كربلاء سنعود، نحمل في قلوبنا ملوحة البحر، وسكينة الدم، وصوتًا لم يخفت يومًا: لبيك يا حسين.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


خديجة عبدالواحد ناصر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2025/07/30



كتابة تعليق لموضوع : حسينٌ على الموج
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net